النهايات

TT

انتشرت هذه السنة في العالم العربي بشكل مهول فكرة أن العالم سينتهي بحلول 2012، وذلك بحسب تقويم قديم يتبع الحضارة المنتمية لـ«المايا»، وهي مجموعة كانت تقطن بشكل أساسي في أميركا الوسطى، وتحديدا في المكسيك والسلفادور والبيرو، وهذا التقويم يعتمد بشكل أساسي على الفكر والعلم الفلكي، بالإضافة لبعض الأساطير القديمة.

وفكرة نهايات العالم ليست بالجديدة، فهي تسكن ثقافات وأديانا مختلفة بشكل كبير، فمنها من يبقيها في الخلفية ويتركها للغيب وللأقدار، وآخرون يضعونها نصب أعينهم ويحولون كل الأحداث إلى أدلة وبراهين للاستقواء بحججهم.

فهناك المسيحيون اليمينيون المتطرفون، وتحديدا الإنجيليين الجدد، الذين كان منهم جورج بوش، الابن، وهم يؤمنون بحتمية اليوم الأخير في مواجهة الخير والشر في موقعة «هرمجدون» على أرض الميعاد، إسرائيل، ونزول «ملك الملوك المسيح»، بحسب روايتهم لإحلال الخير والعدل.

وكذلك الأمر بالنسبة للشيعة الاثني عشرية، التي ينتمي إليها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، والتعلق بفكرة «وجود» المهدي المنتظر حاليا وظهوره بعد اختفائه الطويل، ولذلك لم يعد غريبا أن نسمع روايات عن الذي «رأى» المهدي وشرب معه الشاي وهكذا، كل ذلك لتكريس فكرة النهايات، فهي حل مريح للخلاص من أوجاع الحاضر بدلا من الالتفات للعمل ورفع الظلم.

ووسط هذه المعمعة، صدر كتاب مهم ومثير للجدل في الولايات المتحدة الأميركية بعنوان «تفكيك إسرائيل»، بقلم الكاتب الصحافي اليهودي جيرشوم غورنبرغ، وهو كاتب معروف بكتبه البحثية الجريئة ومقالاته وتحليلاته الدقيقة، إضافة لذلك فهو يكتب بالعبرية كصحافي في جريدة «هآرتس» المعروفة في إسرائيل نفسها.

هذا الكتاب يتوقع «نهاية» إسرائيل القريبة جدا من خطر صنعته هي بنفسها، إسرائيل التي بدأت كديمقراطية برلمانية تحولت اليوم إلى قوة ديكتاتورية متطرفة باسم الثالوث الأخطر: الدولة، والمستوطنات، والكنيس. فالكاتب يعتقد أن هذه الحلقة المترابطة ببعضها ولدت تطرفا يقضي على الديمقراطية الإسرائيلية لصالح التطرف، لأن التشدد بات اليوم سيد الموقف، والمستوطنات المباركة رسميا من الدولة أصبح لسكانها ميليشيات مسلحة صريحة، لها من السلطة والقوة والنفوذ ما لا يمكن للدولة أن تتحكم فيه ولا أن تسيطر عليه، والمستوطنات هذه وكل ساكنيها يلقون الدعم الصريح والمباركة الدينية الواضحة من الحاخامات والمؤسسة الدينية في إسرائيل، بالتبرعات والرعاية من كل كنيس يهودي، وكل ذلك «عطل» مؤسسة العدل والقانون، التي كانت إسرائيل تفتخر بها كنتاج ديمقراطي لدولتها، ولكن هذه الحجة ذهبت أدراج الرياح.

ويؤكد ذلك النمو المهول لنفوذ المتطرفين في إسرائيل وسطوتهم وتعديهم على الجيش الإسرائيلي والشرطة الإسرائيلية ونواب الكنيست والوزراء بلا رادع، وبات أن أي رئيس وزراء اليوم في إسرائيل لا يمكن له أن يشكل أي وزارة دون أن يتضمن في تشكيلته كتلة من هذا التيار المتطرف جدا.

والكاتب يعتقد جازما أن مسألة نهاية إسرائيل باتت مسألة وقت قصير جدا، وأنه لا حل إلا بالفصل المطلق بين الدولة والدين والانسحاب من كل المستوطنات والأراضي المحتلة وخلق هوية وطنية جديدة تجمع بين اليهود والعرب وتسقط مقولة أن اليهود فقط دولتهم إسرائيل.

لكن هذا الذي يطلبه الكاتب غورنبرغ أشبه برسالة انتحار، لأن إسرائيل دولة تعودت على العيش في حالة حرب مستمرة وتدعم اقتصادها بسبب ذلك بالبلايين من دولارات الدعم اللامحدود من أميركا والغرب، مما مكنها من أن تكون بالوضع الذي عليه «دولة حرب» مع اقتصاد قوي وحيوي.

إسرائيل دولة مارقة بامتياز، وهذا النوع من النماذج غير قابل للاستمرار أبدا، ولعل الشهادة التي كتبها جيرشوم غورنبرغ أبلغ وأدق وأهم وصف عن الحالة المستحيلة التي هي عليها اليوم.

[email protected]