حصيلة لبنانية للربيع العربي

TT

إجماع زعماء الموارنة في لبنان - على الرغم من اختلاف مشاربهم السياسية - على تبني اقتراح «اللقاء الأرثوذكسي» لقانون انتخاب يقضي بتفرد كل طائفة بانتخاب نوابها، يبدو كأنه فعل استقالة من لبنان الحالي ممن كتب لبنان لهم قبل قرن تقريبا.

حبذا لو أدرك مسيحيو دولة «لبنان الكبير»، وخصوصا موارنته، في عشرينات القرن الماضي، أن الكيان اللبناني لم يستحدث كنطاق ضمان لوجود مسيحييه فقط، بل كل أقلياته المذهبية والعرقية... لكانوا تجنبوا هواجس «الاستفراد» التي يعانون اليوم منها.

مع ذلك، وعلى الرغم مما يتحملونه من مسؤولية إحباط قيام الوطن في دولتهم، يبدو اقتراح مسيحيي لبنان مبررا إذا ما أخذ على خلفية التطورات «الديمقراطية» في العالم العربي، وبالتالي يجوز اعتباره ردة فعل أولية، وإن إنفعالية، على تفتح «الربيع العربي» عن زهور «إسلامية» الشذى في كل من تونس ومصر وليبيا (والمغرب في حال اعتبار انتخاباته الأخيرة «انحناءة» دستورية في مواجهة رياح الربيع العربي).

حصيلة «الربيع العربي» توحي، حتى الآن على الأقل، بأن الشعوب العربية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الديكتاتورية العسكرية أو الأصولية الدينية.

ولكن، كائنا ما كان حكم التاريخ على ما سمي - ببعض التفاؤل كما يبدو – بـ«الربيع العربي»، يصعب تجاهل هواجس المسيحيين (في لبنان والمنطقة) من واقع سياسي عربي يبدو مستقبله محكوما بالأصولية، في أحسن الحالات، والسلفية في أسوأها. مع ذلك، وبقدر ما تعتبر هذه الهواجس مبررة في الظروف الراهنة، يؤخذ على أصحابها عودتهم إلى ذهنية الاستئثار الطائفي بالشأن السياسي في بلدهم، أي الذهنية التي اتفق على تلخيصها إبان عز «المارونية السياسية» بمقولة «ما هو لنا.. لنا وحدنا، وما هو لكم.. لنا ولكم».

لا جدال في أن حصر انتخاب النواب اللبنانيين، في ظل نظام القيد الطائفي، بأبناء الطائفة التي ينتمون إليها، دون مشاركة ناخبي الطوائف الأخرى، يحرر المسيحيين – وكل الأقليات اللبنانية – من النواب المحسوبين على طوائفهم والمستولدين من رحم الطائفة الأكثر عددا في دوائرهم الانتخابية، ما يعني، استطرادا، احترام قرار أكثرية هذه الطائفة في اختيار ممثليها.

وبمنظور سياسي أشمل قد تعتبر طريقة التصويت هذه مجرد عملية تصحيح للنظام السياسي اللبناني تنقله من حالة الكونفيدرالية الطوائفية غير المعلنة، إلى حالة الفيدرالية الطائفية المعيشة في الواقع.

ولكن منطق أقطاب الموارنة الانتخابي يطيح بمبرر الصيغة الديمقراطية اللبنانية، أي سمتها التوافقية التي جعلت الطوائف الإسلامية ترضى في الطائف بمعادلة المناصفة في الحكم مع المسيحيين، على الرغم من تراجع نسبتهم في لبنان إلى نحو ثلث المقيمين.

من هنا يبدو تمسك الموارنة بالمناصفة، من جهة، وإصرارهم على التفرد بانتخاب نوابهم، من جهة ثانية، كأنه تنكر لمبدأ المصير المشترك لصالح المصلحة المذهبية الضيقة.

وإذا كان الكثير من اللبنانيين يسلمون بأن فرصة بناء «الوطن» ولت إلى غير رجعة مع طغيان الولاءات المذهبية على الولاء للوطن الواحد، فإن اقتراح نظام انتخابي محض مذهبي يقضي على آخر فرصة متاحة لجمع اللبنانيين، ولو في بوتقة اجتماعية واحدة: فرصة بناء «الدولة».

بأي منظور كان لا يحق لمن كتب لهم بالأمس الكيان اللبناني، بموجب «صك» سايكس - بيكو الجغرافي، أن يتنكروا اليوم للبنان الوطن (وإن صحت فيهم مقولة الشاعر ابن زريق البغدادي: «أعطيت ملكا فلم تحسن سياسته»). وحتى مع التسليم بمبررات هواجسهم، لا عذر لهم، في هذه الظروف العربية القلقة، أن يتنكروا لمؤسسة «الدولة» القوية والقادرة على حمايتهم، عبر تخليهم عن أبرز قواعد «المشاركة» في بناها السياسية مع أبنائها الآخرين: الخطاب الانتخابي المشترك.

لذلك، وتجنبا لتحول مشروع التفرد المذهبي في الانتخابات النيابية يوما ما إلى مشروع كانتونات طائفية في لبنان، يظل الشعار الأفضل للطرح في هذه المرحلة هو العودة إلى الدولة الواحدة والسلطة التنفيذية الواحدة والجيش الواحد.. دون إغفال إدخال تعديلات ضرورية على قانون الانتخاب تجعله أفضل تمثيلا لكل اللبنانيين وأقل تهديدا لوحدتهم.