فاتسلاف هافيل وقوة الضعفاء

TT

سمعت عن فاتسلاف هافيل لأول مرة عام 1968 عندما كان من المقرر أن يقوم أحد المسارح التشيكية بعرض مسرحيته «العيد في الهواء الطلق» خلال مهرجان شيراز في إيران. وفي فترة ما قبل الخميني، كانت مدينة شيراز قد عضدت من مكانتها كعاصمة ثقافية لإيران وكانت تحاول أن تصبح مركزا رائدا للفن والثقافة على المستوى العالمي.

وكان منظمو المهرجان يبحثون عن الجديد في كل المجالات والميادين حتى يتمكنوا من اختصار عقود، إن لم يكن قرونا، للوصول إلى العالم الحديث، ولذا لم يكن من الغريب أن يلجأ الكتاب المسرحيون لتقديم «المسرح العبثي» الذي كان حديثا في ذلك الوقت.

وكان هافيل كاتبا مسرحيا شابا يسير على خطى الكتاب العظماء من أمثال صمويل بيكيت ويوجين يونسكو وجيرزي غروتوفسكي وبوب ويلسون وبيتر بروك وغيرهم. وفي ضوء الآمال التي كانت معقودة على «ربيع براغ»، كان الجميع يتوقع مستقبلا باهرا للتشيك.

وقبل أيام قليلة من افتتاح المهرجان، توغلت الدبابات السوفياتية في براغ، ولذا لم نتمكن من مشاهدة العرض المسرحي وكان يتعين علينا أن نكتفي بقراءة نسخة مترجمة من مسرحية هافيل. لقد كان هافيل رجلا حرا يفكر خارج الإطار الحديدي الذي وضعته الشيوعية ويتحدث عن «الحالة غير المستقرة» لكافة الأنظمة الديكتاتورية.

لقد برز هافيل، على مر السنين، كرمز للمقاومة ضد الاستبداد. وجنبا إلى جنب مع غيره من النشطاء التشيكيين الذي يقاتلون من أجل الحرية، أظهر هافيل أن أقوى الجيوش تكون «عاجزة عندما تواجه قوة غير مدربة على قتالها».

ووفقا لهافيل، تقتات الديكتاتوريات على الإرهاب والتحييد، وأخيرا المشاركة في اختيار ضحاياها في الشبكة العنكبوتية المليئة بالفساد والتي تنسجها هي بنفسها في المجتمع. وينبغي على أولئك الذين يقاتلون من أجل الحرية أن يعملوا على حماية كرامتهم من خلال «قوة الضعفاء».

لقد تحدى هافيل النظام الشيوعي القاسي لنوفوتني وهوساك، كما تحدى أيضا الاشتراكية «المرنة» لألكسندر دوبتشيك، وأشار إلى أنه لا يمكن إصلاح النظام الاستبدادي.

وكان هافيل، الذي أصبح واحدا من أشهر المعارضين خلال فترة السبعينات من القرن الماضي والذي اشتهر بأنه عصر المعارضين بامتياز، يتمتع بمسار واتجاه خاص به. وخلافا لألكسندر سولجنيتسين، الذي استبدل عبادة السوفياتية بالعودة إلى الحضارة السلافية، حاول هافيل أن يستبدل الفكر الشمولي بفكر شمولي آخر. وخلافا لساخاروف، لم يكن هافيل يؤمن بالحياد غير الأخلاقي للعلوم.

ومن بين المعارضين في الكتلة السوفياتية والذين انتهى بهم المطاف ليصبحوا زعماء سياسيين، كان هافيل هو الوحيد الذي تم الدفع به إلى السلطة السياسية دون رغبة منه. وفي رواية «مقابلة من مسافة بعيدة»، روي هافيل تفاصيل أمسية له مع ألكسندر دوبتشيك، وهو الأب الروحي لـ«ربيع براغ»، ومستشاريه المقربين في الأيام المصيرية من صيف عام 1968.

وفي البداية، كان هافيل خائفا من وجود هؤلاء الأشخاص الأقوياء، ولكنه سرعان ما أدرك أن سلاحه الوحيد والمتمثل في كلماته هو أقوى من الأدوات التي يملكها دوبتشيك، وهو ما مكن هافيل من أن يقول لدوبتشيك هذا النوع من السرد الذي لن يسمعه أي زعيم شيوعي، حتى ولو كان يحلم بـ«اشتراكية ذات وجه إنساني» طيلة حياته.

وتكشف كتابات هافيل في وقت لاحق عن وجود صراع طويل مع فكرة دخول الساحة السياسية كزعيم وليس كمعارض. ونراه يتساءل عن إمكانية تحول أي مفكر إلى سياسي دون أن يصبح كاذبا من الطراز الأول. والأهم من ذلك، فهو يسعى للحصول على جواب لما إذا كان يمكن للمرء أن يعمل في السياسة دون أن يتنازل عن الأخلاق. وكان جواب هافيل عن ذلك التساؤل هو «نعم».

ويؤمن هافيل بأن «التغير يحتاج إلى الصبر» وأن المجتمعات البشرية تغير باستمرار الكيانات التي يمكنها الانتقال، بمرور الوقت، من وضع معين إلى العكس تماما. وفي الوقت الذي يقترب فيه عام 2011 من نهايته، يمكن للمرء أن ينظر إليه على أنه هو الصورة المثالية لهذا المفهوم، حيث رأينا كيف تتم الإطاحة بمجموعة من الأنظمة الاستبدادية، في البلدان التي كان المتهورون واليائسون فقط هم من ينضمون للمعارضة، من قبل «قوة الضعفاء».

ويمكن للمرء أن يطلق على عام 2011 اسم «عام هافيل»، حيث بدأ «الضعفاء» العزل في بلدان «الربيع العربي» وفي إيران وفي العديد من دول أميركا اللاتينية وأفريقيا وفي روسيا وحتى في الصين، بدأوا في مواجهة الأقوياء بعدما انهارت جدران الخوف التي تم بناؤها على مدى أجيال طويلة.

في جميع هذه البلدان، فشل الطغاة في رؤية التغير الذي طرأ على مجتمعاتهم دون أن يدرك جواسيسهم وتابعوهم ما كان يحدث. ولذلك، كان الزعيم الليبي معمر القذافي عاجزا عن فهم حقيقة أن الأمور قد تغيرت، عندما وُجد مختبئا في أنبوب للصرف الصحي، ولذا ظل يسأل معتقليه: «ما الذي فعلته لكم؟»، كما نرى بشار الأسد يقول لزائريه في مخبئه في دمشق إن «شعبه يكن له حبا كبيرا». وهل رأيتم ملامح وجه فلاديمير بوتين عندما كان يلقي محاضرته الأخلاقية على شاشات التلفاز، وهو يبدو كعاشق لا يعرف لماذا هجرته حبيبته؟

إن نظرية هافيل، التي وصلت لنهايتها المنطقية، تظهر أن الشيء الوحيد الذي يمكن لأي زعيم سياسي السيطرة عليه هو الوقت المناسب لخروجه من الساحة. وفي الواقع، يصل القادة إلى السلطة نتيجة عوامل خارجة عن إرادتهم، وخير مثال على هذا هو ما حدث مع هافيل نفسه.

ولكن السؤال الآن هو: هل نظرية هافيل تنطبق عليه هو شخصيا، مع الوضع في الاعتبار أنه قد فقد الكثير من شعبيته خلال الفترة الأخيرة من رئاسته؟ وعندما التقيت به وقت أن كان رئيسا لتشيكوسلوفاكيا، كان هافيل قد أتاح لي التمتع بجولة صغيرة في القصر الرئاسي في براغ، وأراني سجادة فارسية مهداة من البرلمان الإيراني في القرن التاسع عشر إلى ملك بوهيميا.

وقد تم تزيين السجادة ببضعة أسطر من كلمات الشاعر الكبير سعدي الشيرازي تقول:

آدميون نحن ولنفس الأصل ننتمي

فكيف نهنأ بالعيش والغير يألمُ

ما استحق الحياة من يرى أخاه يشقى

وهو بالملذات والخيرات ينعمُ

وعندما ترجمت تلك الأبيات، هز هافيل رأسه وقال: هذا درس لنا جميعا!