عشوائية ميدان التحرير وعودة نظام 23 يوليو

TT

بعد مرور حوالي أحد عشر شهرا على ثورة ميدان التحرير، شهدت مصر تحولات خطيرة باتت تهدد - ليس الثورة فحسب – بل مستقبل الوطن بأكمله. فقد نالت الثورة المصرية إعجاب العالم بأسره بسبب السلوك السلمي للمتظاهرين وتلاحم الثوار مع الشعب في صف واحد. وفي ذات الوقت رفض الجيش التعرض للمتظاهرين، وسمح لهم الاستمرار في تظاهرهم حتى تم إسقاط الرئيس حسني مبارك وحكومته. لكن الوضع تغير الآن كلية؛ فقد أصر بعض الشباب على الاعتصام أمام مجلس الوزراء لمنع عبد المنعم الجنزوري - رئيس الوزراء الجديد – من دخول مكتبه وممارسة عمله. وهذا إجراء غير مشروع خاصة أن غالبية الشعب المصري ليس لديها اعتراض على اختيار الجنزوري. كان السبب الرئيسي لنجاح الثورة التحرير، التزام الشباب بمطالب الجماهير، أما الآن فقد عزل الشباب أنفسهم عن جمهور الشعب المصري فصاروا لا يمثلون إلا أنفسهم.

وعلى الجانب الآخر، دخل الجيش المصري في مرحلة مواجهة مع الجماهير للمرة الأولى منذ الثورة، مستخدما أبشع وسائل البطش لسحق أناس يرقدون على الأرض لا قدرة لهم على المقاومة. من حق قوات الأمن – بل ومن واجبها – حماية أمن البلاد وضمان قيام أجهزة الدولة بمهامها، خاصة في الوقت الحالي الذي أصبح فيه الاقتصاد المصري مهددا بالانهيار. ولكن لماذا استخدام وسائل البطش المفرطة لمعاقبة المتظاهرين وسحق معنوياتهم؟

وبينما تتعارك مجموعة صغيرة من الشباب مع قوات الأمن في ميدان التحرير، أصبحت فئات كبيرة من المواطنين غير مطمئنة على مستقبلها بعد اجتياح الإخوان المسلمين والجماعات السلفية انتخابات مجلس الشعب الجديد، وصار مستقبل البلاد يبدو أكثر ظلاما حتى من نظام حسني مبارك الذي سقط. منذ الآن أصبح الناس يسمعون ما يجب عليهم أن يلبسوه ويأكلوه ويشربوه، أو يشاهدوه ويسمعوه. وهذه أشياء لم يعتد المصريون سماعها في أية فترة من تاريخهم. فرغم خضوع المصريين لحكم الدولة الإسلامية لفترة طويلة من الزمن، كانت لهم الحرية في ممارسة عاداتهم القديمة دون تدخل. بل إن بعض المواسم والأعياد القبطية أخذت طابعا قوميا في ظل الدولة الإسلامية؛ مثل الأعياد الخاصة بنهر النيل. وكان الناس يفدون من جميع أنحاء البلاد، على اختلاف طبقاتهم ودياناتهم، للمشاركة في احتفالات عيد الشهيد. يرقص الفرسان بخيولهم على إيقاع الطبول وأنغام الزمور وصوت المطربين والمطربات، كما كانت ساحة المهرجان تمتلئ بمختلف أنواع الألعاب والتسلية. وارتبطت بهذه الاحتفالات بعض مظاهر الفوضى وبعض المعاصي التي ترتكب علانية.

ويبدو أن الإخوان المسلمين يحاولون إقامة علاقة مع المجلس العسكري، تشبة تلك التي سبق أن أقاموها مع «الضباط الأحرار». فقد تعاون الإخوان مع جمال عبد الناصر قبل 23 يوليو 1952، واعتبروا أنفسم شركاء له في الإطاحة بالنظام الملكي الدستوري. وعندما ألغى ناصر الدستور المصري في 10 ديسمبر 1952 وأصدر قرارا بحل الأحزاب والهيئات السياسية، استثنى جمعية الإخوان المسلمين من هذا القرار. إلا أن الخلاف سرعان ما دب بين جمال والإخوان، حيث كان هو يفكر في إقامة دولة قومية شمولية بينما رغب الإخوان في إقامة دولة إسلامية. وجاءت المواجهة بين الطرفين عندما حاول الإخوان اغتيال عبد الناصر وهو يخطب في ميدان المنشية بالإسكندرية في 26 أكتوبر 1954. ويبدو أن الإخوان يحاولون استرجاع علاقتهم مع الجيش والمشاركة في حكم البلاد بعد سقوط الرئيس مبارك، وبينما ينظر الشارع المصري على ما جرى في ميدان التحرير باعتباره ثورة ضد الحكم الشمولي لحركة الضباط الأحرار، يعتقد الإخوان وربما بعض رجال الجيش أن ما حدث ما هو إلا حركة تصحيحية لثورة 23 يوليو، للقضاء على فساد مبارك ورجاله.

في هذه الظروف يتعين تحديد المراد بمستقبل مصر بوضوح أمام شعبها. فعندما تنازل الرئيس مبارك عن سلطاته كرئيس للجمهورية، كان ذلك لفترة انتقالية مؤقته حتى يتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ورغم الاتفاق على انتخاب رئيس الجمهورية بطريق الاقتراع المباشر من الشعب، وليس عن طريق مجلس الشعب - فقد قرر المجلس العسكري إجراء انتخابات المجلس أولا حتى بدون دستور، مما أطال مدة الفترة الانتقالية. وحتى يتم إنقاذ مصر من دوامة صراع مؤكدة إذا استمر الوضع على ما هو عليه، يجب اختيار لجنة لوضع الدستور فورا من رجال القانون الدستوري وممثلين لجميع طوائف المجتمع، كما يجب انتخاب رئيس للجمهورية بأسرع وقت ممكن.