عندما يقيد الدستور إرادة الساسة

TT

يوم الأربعاء طرح النائب المحافظ بيتر بون السؤال في مجلس العموم البريطاني «من الذي يتخذ أخطر القرارات إذا مات رئيس الوزراء فجأة أثناء هجوم إرهابي؟».

طوال ستة عقود من تكلم الانجليزية في المدرسة والجامعة والإبحار فيها بقاربي المهني، والسؤال الافتراضي دائما هو: ماذا يحدث لو «فلان» مات تحت عجلات أتوبيس؟

اعتقدنا كصحافيين أن النائب يقصد المعاصرة، فاحتمالات موت رئيس حكومة في هجوم إرهابي أكثر تصورا اليوم من سقوطه تحت عجلات أتوبيس، لأن الأمن والبوليس لا يسمح له باستخدام مواصلات عامة. وحتى في رحلة الدقائق الثلاث من داوننغ ستريت إلى مجلس العموم يستخدم رئيس الحكومة بابا من حارة جانبية مخصصا لناقلات طرود مصلحة البريد.

ناقشنا الأمر بيننا في مكاتب المجموعة الصحافية البرلمانية عندما ظننا في البداية أن نواب المحافظين يخشون من سيناريو يصبح فيه نائب رئيس الوزراء نك كليغ رئيسا للحكومة بالصدفة، فهو زعيم الحزب الليبرالي في الائتلاف الحكومي وهو منحاز لفكرة الاندماج في الاتحاد الأوروبي التي يرفضها غالبية الشعب. كما أن الليبراليين مصرون على تخريب قرون من تراكمات دستورية بإضفاء ملامح جمهورية على الممارسات الديمقراطية مما يثير غثيان المحافظين.

السؤال طرح إشكالية لا تزال تحتل مناقشاتها الصفحات وبرامج التلفزيون والإذاعة السياسية منذ مساء الأربعاء حتى ذهاب مقالنا إلى الطبع أمس.

منصب نائب رئيس الوزراء سياسي ولا وجود له دستوريا. وبعض رؤساء الحكومة كهارولد ويلسون في الستينات والليدي ثاتشر في الثمانينات ابتكروا المنصب الذي احتلته عادة شخصية حزبية أكبر سنا من رئيس الحكومة، وقلدها توني بلير. أما خليفته غوردن براون فلم يعين نائبا.

ليس في بريطانيا دستور مكتوب، لكن تقاليد 800 عام من ممارسات ديمقراطية تجعل هذه الأمور محفوظة عن ظهر قلب، وعندما يظهر أمر غير مألوف أو يطرح سؤال دستوري، يسرع الصحافيون والباحثون في البرامج الإخبارية لينقبوا في الأرشيف الضخم لمجلسي اللوردات والعموم (المعروف بسجل هانزارد حيث تدون كل المناقشات) وفي مكتبتي المجلسين، عن سابقة لما حدث أو سابقة لإحداث مقارنة للاستدلال بها.

رئيس الوزراء لا يملك الحق دستوريا في أن يسمي خليفته أو يوصي بمن يحل محله في حالة وفاته أو عجزه عن أداء مهامه. فقط يقدم استقالته لجلالة الملكة، ثم تعلق الملكة، بوصفها رأس الدولة، البرلمان بمرسوم ملكي وتجرى انتخابات.

أما إذا قرر رئيس الوزراء الاستقالة لأسباب صحية (كحالة ويلسون قبل أربعة عقود) أو لأسباب غير سياسية (كحالة توني بلير) ولا يزال حزبه يتمتع بالأغلبية، فإن الحزب الحاكم ينتخب زعيما جديدا بالتصويت المباشر بين الأعضاء، ويصبح بدوره رئيسا للحكومة. فالنظام البرلماني يعتمد على تنافس الأحزاب في الانتخابات، والأمة تنتخب حزبا لأن الأغلبية تقبل البرنامج الاقتصادي والسياسي للحزب، ولا تنتخب فردا، فهذا نظام رئاسي (يزدريه البريطانيون) كالحال في أميركا مثلا.

الانطباع الأول للإجابة عن السؤال، أن جهاز بيروقراطية الدولة سيستمر في العمل وإدارة شؤون البلاد إلى أن ينتخب الحزب الحاكم زعيما. مجلس الوزراء يرشده السكرتير الدائم للمجلس، وهو ليس سياسيا معينا من قبل رئيس الوزراء، بل موظف دولة خادم للتاج civil servant ورئيسه المباشر هو الملكة وليس رئيس الحكومة. فأهم دعائم استقرار النظام الملكي هو فصل مهام الحكومة (ككيان متغير بالانتخابات) عن الدولة ككيان ثابت لا يتغير.

رئيس الوزراء، هو زعيم الحزب الذي انتخبه الشعب بالأغلبية مما يعني تفويضا من الأمة في اختيار الوزراء ورسم السياسة طوال المدة البرلمانية، وتنتهي صلاحية التفويض بتصويت الشعب في الانتخابات التالية.

الزعيم العمالي ويلسون (رئيس لحكومات 1964 - 1968؛ و1974 - 1976) عين وزيرا وأضاف إليه لقب سكرتير (أو أمين عند العرب) دولة.

في العربية كلمة واحدة «وزير»، لكن الوزير على درجات في بريطانيا، minister مرتبة تحتية كوزير شؤون الهجرة في الداخلية وهو مرؤوس من Secretary Home وزير الداخلية؛ ووزير المالية يسمى Chancellor of the exchequer بينما أحد مناصب رئيس الوزراء هو الشيخ الأول للخزانةFirst lord of the treasury في حين الخزانة يديرها وزير minister تحتي يخضع لوزير المالية. وهذه التعقيدات هي جزء من الضوابط والموازنات في النظام الديمقراطي، التي تجعل من المستحيل على رئيس حكومة أن ينفرد بقرارات تؤثر على الأمة ومصالحها على المدى الطويل.

ولذا إضافة لقب سكرتير دولة لوزير (بعد موافقة القصر والسكرتير الدائم) تعطيه صلاحية دستورية لاتخاذ القرار في حالة غياب رئيس الحكومة بالتنسيق مع السكرتير الدائم للمجلس (وهو تابع للملكة وليس للحكومة) وهذا ما فعلته ثاتشر، وأيضا بلير عندما عين جون بريسكوت (حاليا اللودر بريسكوت) نائبا له بلقب سكرتير دولة.

الإشكالية أن رئيس الحكومة الحالية لا يمتلك هذه الصلاحية المطلقة لأن الشعب منحه صلاحية أقل من 51 في المائة وبالتالي فالحكومة ائتلاف من حزبين.

في مقابلة مع الصحافيين قال النائب بون إنه تعمد افتراض حادث إرهابي في سيناريو يغيب فيه الشخص الذي يتيح له الدستور إعطاء أوامر الحرب الحرجة للجيش أثناء هجوم إرهابي مثل 11 سبتمبر، وطائرة مختطفة تتجه إلى منطقة سكنية في قلب العاصمة أو إلى القصر الملكي، من هو الشخص الذي يصدر لسلاح الطيران أوامر إسقاطها؟

ولغياب الدستور المكتوب احتار اليوم ساسة أعرق ديمقراطيات العالم وفقهاؤها القانونيون في الإجابة عن سؤال لم يخطر ببال أحد لأن وسائل الاتصال الحديثة تبقي رئيس الوزراء المنتخب على اتصال دائم بمكتبه حتى أثناء عطلة في أستراليا مثلا. لكن ماذا يحدث إذا مات والهجوم الإرهابي مستمر؟

المنصب الذي قفز إلى الأذهان هو شيخ العدالة والقوانين Lord Chancellor وهو رئيس السلك القضائي المستقل وحامل الأختام الملكية، وهو أقدم من منصب رئيس الوزراء بمئات السنين. استغل بلير أغلبية حكومته البرلمانية في تخريب الأسس الدستورية فألغى المنصب واستبدله بوزير العدل وهو سياسي منتخب، مما لا يستقيم والتقاليد الدستورية في تمثيله الحكومة والدولة معا في حالة طوارئ.

التقليد الأقرب شيخ العدالة كمنصب ليس سياسيا حزبيا بل تعينه الملكة مما يضمن الحياد فيضع مصلحة الأمة قبل مصلحة الحزب الحاكم؛ والأقرب رئيس مجلس اللوردات حتى ينتخب الحزب الحاكم رئيسا جديدا. والجدل لا يزال مستمرا.

ملاحظات نهديها للمصريين، لعل الله يهديهم إلى الأهمية الحتمية لصياغة دستور محدد الملامح لا يتدخل الساسة في تفاصيله بدل الهرولة إلى صناديق الاقتراع بلا بوصلة ترشدهم إلى السبيل الأمثل لمصلحة الأمة على المدى الطويل.