القهقرى العربية.. دورات التاريخ وأرواحه

TT

تحدث ابن خلدون عن دورات التاريخ، وذلك حين شبّه حراك الأمم والحضارات بنمو الإنسان من مرحلة الضعف لمرحلة القوة ثم لمرحلة الهرم والموت، وتحدث هيغل عن رؤية مشابهة تجاه دورات التاريخ وأرواحه، وقد تحدث غيرهم كثير من المؤرخين والفلاسفة لتأكيد نفس الفكرة.

وكما للتاريخ دورات وأرواح تتخلق وتتغير، وتتجه للصعود والتقدم تارة وتتجه للهبوط والتخلف تارة أخرى، فكذلك يجري في المجتمعات والجماعات وهو أوضح لدى الأفراد، وقد أشار كرينتن لصعوبة رصد أرواح الجماعات والتغييرات التي تطرأ عليها.

اليوم، وحين تقوم مجموعة من الغوغاء بإحراق المجمع العلمي بالقاهرة يدفعها الجهل الأعمى بقيمته وقيمة مخطوطاته ومقتنياته التي لا تقدر بثمن في لحظة هوس ثوري وتمرد عنفي، لا نملك إلا أن نستحضر إغراق التتار لمئات إن لم يكن آلاف المخطوطات في مياه النهر حين اكتسحوا بغداد، ونستطيع القول ما أشبه الليلة بالبارحة وإن التاريخ يعيد نفسه.

وحين يعود نوري المالكي ليمارس ديكتاتورية جديدة في العراق باسم الأكثرية، نعلم أنه على الرغم من الشعارات الكبرى وشكليات البنية الديمقراطية للدولة وشكليات الآليات الديمقراطية من انتخابات وصناديق، إلا أن حجم الوعي والتطور وطبيعة المجتمعات تمنح القائد السياسي قدرة على ممارسة أعتى أنواع الديكتاتورية ليصبح المالكي أقرب ما يكون لما سماه الزميل طارق الحميد «صدّام الشيعة» ليعيد التاريخ نفسه وإن بصيغ أخرى.

في التاريخ الحديث بالمنطقة العربية، يمكن رصد أكثر من دورة وروح تاريخية على المديين الطويل والقصير، على المدى الطويل شهدت المنطقة بعد قرون الخلافة العثمانية مرحلة الاستعمار ثم دولة ما بعد الاستعمار أو الاستقلال ثم حكم العسكر، وكان لكل مرحلة شعاراتها المعبرة عنها ومفاهيمها الحاكمة لحراكها ومشاريعها الكبرى ورؤيتها العامة التي تختلف عن غيرها.

على المدى القصير وفي الثلاثين عاما الماضية، شكلت مرحلة الثمانينات تحالفا قويا بين الغرب الرأسمالي والجماعات الدينية الإسلامية من جهة ضد الشرق الاشتراكي الشيوعي من جهة أخرى، نتج عنه سقوط الاتحاد السوفياتي. ثم جاءت مرحلة التسعينات لتشكل حقبة القطب الواحد دوليا، حيث خرج المنافس السوفياتي من المعادلة بشكل أو بآخر، ثم جاء العقد الأول من الألفية الجديدة ليشكل عقد الإرهاب وزمن تفجّر العنف الديني الإسلامي حين انقلب تحالف الثمانينات حربا ضروسا بين حلفاء الأمس ورفقاء السلاح.

لكل عقد من هذه العقود الثلاثة مواضعاته ومفاهيمه وشروطه وما يمكن تسميته بهويته الجامعة، وها نحن ندخل في العشرية الثانية من القرن الجديد مفتتحة بالانتفاضات والاحتجاجات والثورات في المنطقة العربية ومرحلة ما يسمى «الربيع العربي» وهو انتفاض ضخم وحدث تاريخي بكل المقاييس، أنظمة تتهاوى بمفاهيمها وأرواحها وشروطها، وأنظمة تبزغ من اللامكان واللازمان وتتجه إلى المجهول، قد يكون يحصّل بعضها نجاحا محدودا وقد يصبح أكثرها وبالا وأذى، وإن يكن الثاني أقرب من الأول عند الاتجاه لتكوين رؤية عقلانية بعيدة عن عواطف جياشة تعبر عن نفسها برؤى مجللة بالحماسة ومتوجة بالشعارات.

إن كل روح تاريخية تنقضي تعبر عن نفسها بانتهاء مجموعة مفاهيمها الحاكمة وأفكارها السائدة، وتدهور وسقوط مؤسساتها الكبرى، إن في الدولة وإن في المجتمع، وكذلك بانقضاء رموزها وأيقوناتها على كل المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية، إما بالموت أو العجز أو الخمول الذهني أو انعدام التأثير، لتفسح المجال لروح جديدة مختلفة.

يخطئ كثير من المتفائلين بالربيع العربي حين يحسبون أن التاريخ يتجه دائما للأمام، أي نحو الأفضل والأكثر حداثة وتطورا، بينما يستطيع أي دارس للتاريخ العام للبشرية أو للتواريخ المتعلقة ببعض البلدان أو الأمم أن يكتشف بسهولة إمكانية تخلفها وتشتتها وتشرذمها، مما يعني إمكانية حقيقية لوجود لحظات ومراحل وحقب يتراجع فيها التاريخ للأسوأ والأقل حظا من الحداثة والتطور.

إن التاريخ قد يسير القهقرى ويعود بالأمم أو الدول أو المجتمعات أو الأفراد القهقرى ولكن الزمان لا يفعل، فالزمن دائما وأبدا في مسيرة متصلة إلى الأمام، ولكن الزمان لا يحمل المفاهيم التي يحملها التاريخ لأن التاريخ هو اكتناز لجملة التفاعلات الإنسانية التي قد تتصاعد باتجاه الرقي والتقدم وقد ترتكس باتجاه التخلف والتقهقر.

في هذا السياق، فإن أطروحات البعض حول مصير الاحتجاجات أو الثورات في البلدان العربية وأنها ستؤدي حتما للأفضل لتلك البلدان، تبدو محكومة بالأماني الساذجة أكثر منها بالتحليل المنطقي والعقلاني والتاريخي. أن تحلم بمستقبل أفضل منطلقا من مشاعر الكبت ورغبات الانتقام وحماسة الثأر، لا يعني أنك تتجه عمليا وواقعيا لذلك الأفضل، بل إن الأقرب لدى كل مراقب مستقل هو أن ترتكس بواقعك إلى الوراء وتسير بتاريخك القهقرى.

لقد دفع استقرار الدولة في المغرب إلى إجبار حزب العدالة والتنمية الإسلاموي على التفاوض مع الأحزاب الأخرى لتشكيل الحكومة الجديدة، ودفع إرث تونس الثقافي والحضاري منذ خير الدين التونسي إلى أبو رقيبة إلى إجبار حزب النهضة على تبنّي أطروحات ليبرالية وعلمانية تخالف آيديولوجيته وتحد من تغولها، ولكن مصر وليبيا لا تمتلكان في مواجهة المد الأصولي والإخواني وفي مواجهة الفوضى أيا مما امتلكته المغرب وتونس.

إن واقع ما يجري في دول الاحتجاجات العربية يبين بصراحة عن ضعف ومجاملة وربما نفاق من بعض النخب للجماهير الغاضبة في الشوارع والميادين، فهم لا يجرؤون على نقدها ووصفها بما تستحق، بل أكثر من هذا فكثير من هذه النخب عاجز عن فرز الرعاع المجرمين والغوغائيين المخربين وتوجيه النقد المباشر لهم، وهم في هذا رغم ما يزعمونه من ثوريتهم ضد السلطة السياسية السابقة فإنهم خاضعون لسلطة الجماهير وسلطة البحث عن النفوذ والانتشار والتأثير بغض النظر عن رؤيتهم الحقيقية وقناعاتهم الذاتية، ولئن كان في ليبيا مثال جدير بالاستحضار فإن ما يجري في مصر مثال أكثر وضوحا وأسهل رصدا.

لقد دخلت مصر ومعها بعض دول الاحتجاجات العربية في نفق مظلم ربما لن تتعافى منه قبل عقد من الزمان على الأقل، وللأسف، فلا عزاء لمن يحسب أن التاريخ يسير دائما نحو الأفضل، ويتخاذل عن تقديم نقد حقيقي ورؤية واقعية لما يجري حوله إما رغبا وإما رهبا.