الاحتقار والكراهية ودورهما في تدمير النظام

TT

من بين مفكري الدولة في طول التاريخ وعرضه، أثق كل الثقة بأرسطو الذي عاش قبل الميلاد بخمسمائة عام تقريبا، كما أثق بنيقولا مكيافيللي الذي عاش في بداية القرن السادس عشر، في ذلك الوقت الذي بدأ فيه قطار حضارة البشر في الانطلاق بأقصى سرعته فيما عرف بعصر النهضة. عن الدولة، توقفت طويلا أمام جملة أرسطو في كتابه «السياسة» التي قال فيها «اثنان فقط قادران على الحياة بغير الدولة، الوحش والإله»، قال ذلك بالطبع أيام تعدد الآلهة في الحضارة اليونانية وقبل أن تهتدي الناس إلى فكرة الإله الواحد الأحد. إنها المرة الأولى في التاريخ التي يوضح فيها مفكر دولة بهذا الحسم والاختصار، أنه من المستحيل لآدمي أن يعيش بغير دولة أو خارج إطار الدولة. وهو ما نفهم منه أنه في غياب الدولة يتحول البشر إلى آلهة، حاشا لله، أو يتحولون إلى وحوش. من تجاربنا كبشر سيكون من السهل علينا أن نكتشف أنه من المستحيل على الأقل في عصرنا أن تغيب الدولة، غير أنه لا بد من الإقرار أن ضعف الدولة يتساوى مع غيابها في تأثيره على المواطن. أريدك أن تلاحظ هنا أنني بدأت في حديثي معك باستخدام كلمة مواطن، أي ذلك الكائن الحي الذي يعيش في وطن.

دعني أقفز قفزة واسعة طولها ألفا عام لنتوقف قليلا أو كثيرا مع مكيافيللي، وهو ما أعتبره أعظم مفكر دولة ظهر على الأرض منذ عصر النهضة، إنه المفكر الوحيد في التاريخ الذي يعرفه الناس، وخاصة هؤلاء الذين لم يقرأوا له حرفا واحدا، بوصفه صاحب أسوأ سمعة بين المفكرين جميعا، هو بالنسبة لهم رمز للشر الخالص. ربما تعود ثقتي بأفكاره إلى أنه زميل مهنة، فهو أيضا كان يكتب للمسرح، ويكتب الكوميديا بالتحديد. ومع اعتقادي بسخافة النصائح بوجه عام، غير أني أنصح كل من يعمل في السياسة وأجهزة الدولة أن يقرأ كتابيه «الأمير» و«المحاورات»، فربما يمدانه بمزيد من الفهم والإضاءة في عمله. ومن فضلك لا تقرأ ملخصات أو شروحا، أو تعليقات، اقرأ الكتابين.

يرى مكيافيللي أن الناس تحب أمراءها بالضرورة، وأن الأمير ليس مطالبا بأن يسعد شعبه بإجراءات معينة تجلب له الولاء، ولكنه يحذر الأمير من أمرين، أن يفعل أي شيء من شأنه أن يدفع شعبه إلى الإحساس بالكراهية أو الاحتقار. هناك نصائح أخرى عديدة يسديها إلى الأمير، ومنها، لا تدع جنودك يتدخلون في حياة الناس، واحذر أن يتعرض أحد من مواطنيك لظلم ولا تنتصف له. وبالنصيحة الأخيرة يكون صديقنا أول من أشار في أصول الحكم إلى حتمية أن يتوفر العدل للمواطن الفرد، هو لم يقل: لا تسمح لأحد بأن يظلم الشعب، ولكنه يحذره من وقوع الظلم على مواطن واحد. لقد تنبه إلى خطأ التفكير الذي يستخدم المعاني الكلية كأداة، المعاني الكلية تخدع الحاكم والمحكوم معا.

والآن دع العصور القديمة والوسطى، واصحبني في جولة في شوارع القاهرة، هل ترى هذه اللافتة؟.. هي تقول: «الشرطة في خدمة الشعب». الواقع أننا لم نر شعبا من قبل يدخل قسم الشرطة ليقم شكوى ضد أحد، ولم نشاهد أو نسمع عن شعب دخل مستشفى ليجري عملية جراحية، ولم يحدث أن سمعنا عن حفل زفاف للشعب، أو أن الشعب طلق زوجته. الدولة لا تعمل عند الشعب لأنه لا يوجد معنى محددا للكلمة، الدولة بكل أجهزتها تعمل عند المواطن الفرد، لذلك هي تنشغل فقط بصنع القوانين التي تحميه كإنسان فرد، وعنايتها بهذا المواطن الفرد تبدأ قبل أن يولد، بل قبل أن يتخلق في رحم الأم، على الأقل هي تطلب شهادات طبية من هؤلاء المقدمين على الزواج بخلوهم من الأمراض التي من الممكن أن تؤثر على صحة الطفل المولود. وأثناء الحمل هناك مستوصفات تابعة للدولة لمراعاة الحمل ومراعاة المواطن الجديد، وبعدها تعمل على تعليمه مجانا في مرحلة إلزامية على الأقل لكي تضمن ألا يتحول بعد سنوات قليلة إلى وحش جاهل يشعل النار في المجمع العلمي أو في أقسام شرطة الدولة أو في بقية ممتلكات الدولة والناس. كان في مصر في أربعينات القرن الماضي، نظام للتعليم الإلزامي، أي إن الأسرة والدولة ملتزمتان بتعليم الأطفال القراءة والكتابة ومبادئ الحساب.. إلزامي يعني إجباريا، يعني أن ترسل بطفلك إلى المدرسة وإلا يحكم عليك بغرامة عن كل يوم يغيب فيه. لقد التحقت أنا بهذه المدارس، كانت الغرامة جنيها واحدا، وفي مدينة مثل دمياط في ذلك الوقت، كان ذلك يمثل عبئا باهظا. وبمرور الأيام والسنين بدأ المجتمع يكتسب عادات جميلة، منها القدرة على صك كلمات مناسبة نحل بها مشاكلنا، ومنها مشكلة التسرب في التعليم، أي إن الأطفال يدخلون المدارس ويتسربون خارجين منها ليعملوا في الحرف أو ليتشردوا في الشوارع لتدعيم الجريمة وإمداد العصابات بالمزيد من المجرمين المحتملين أو الجاهزين.

في نهاية الأمر وصلنا إلى نظام تعليم فريد بين الأمم، نظام تعليم علني لا يعلم أحدا شيئا، ونظام آخر سري تدفع فيه الأسر نفقات تعليم أطفالها في البيوت، ابتداء من الفصل الأول في الدراسة الابتدائية إلى السنوات النهائية في الطب والهندسة. هكذا انتهى الأمر بالمجتمع إلى صفوة قليلة العدد تعلمت جيدا وجموع يفترسها الجهل الذي هو الطريق الرئيسي للشر.

الأمر الذي لم يكن يعرفه مكيافيللي، هو أن جنود الأمير الذين حذره من أن يتدخلوا في حياة الناس، لم يعودوا أفراد جيشه من الفرسان والمشاة، بل اتسعت دائرتهم في العصر الحديث تحت مظلة عريضة للغاية تسمى البيروقراطية. من المستحيل أن تقضي حاجة لك في أي مكتب حكومي بغير أن تلجأ للأساليب «التحتية» غير الشرعية، الأخطر من ذلك أن ما وافقت عليه الدولة من قبل لك، من الجائز أن تعود وتسحبه منك بواسطة ترسانة من القوانين لا تعرف أنت عنها شيئا. هكذا امتلأت قلوب الناس وعقولها بالكراهية والاحتقار، كان من المستحيل أن يخرج كل هذا العدد من البشر إلى ميدان التحرير مطالبين برحيل النظام السابق، بغير هذه الكمية المروعة من الكراهية والاحتقار.

إنني أفكر في أنه من المهم للغاية، أن تفتح الجامعات والأكاديميات الأبواب لطلاب الدراسات العليا، الماجستير والدكتوراه، ليشرحوا لنا ماذا كانت بالدقة، الإجراءات والقرارات وأنواع السلوك التي راكمت داخل المواطنين كل هذا الإحساس بالكراهية والاحتقار لسبب عملي للغاية، هو ألا نعود لمشاهدة هذا الفيلم السيئ مرة أخرى.. لو أنني كنت شابا صغير السن، لسجلت على الفور رسالة ماجستير عن هذا الموضوع، ولكن لأني رجل عجوز، فبوسعي فقط أن أكون الأمين العام لائتلاف عجائز مصر وكهولها - تحت التأسيس - وأدعو لشيء واحد، هو عدم الكذب من أجل الوطن. من أخطر الأمور في الدنيا أن تكذب من أجل الوطن، لقد جُربت هذه الوصفة لسنوات طويلة، وأنتم جميعا تعرفون نتيجتها.