إلى اللقاء.. وليس وداعا

TT

بهذه المقالة أختتم مسيرة استمرت نحو 8 سنوات مذ بدأت الكتابة أسبوعيا لصحيفة «الشرق الأوسط»، وعلى وقع أحداث عراقية كبيرة انطلقت بعد التغيير عام 2003. سعيت طوال هذه الفترة، وعلى الرغم من كثرة المشاغل والارتباطات، لأن أكون وفيا لقرائي وللصحيفة التي منحتني - مشكورة - هذا المنبر، تابعت خلالها الكثير من المخاضات التي مر بها بلدي، وأحيانا المنطقة برمتها. سلسلة المقالات تلك كانت بالنسبة لي بمثابة أرشفة لكل تلك الأحداث وتعبير عن تفاعلي معها، ورغم محاولاتي أن أحافظ على سياق موضوعي وعلمي في الطرح والتحليل، فإنني أيضا لم أستطع إلا أن أضمنها أحيانا انفعالاتي وهواجسي، وإذا كان من انحياز لي فهو في دعم العملية السياسية في العراق، رغم المأخذ والإخفاقات والمثالب فيها لكون لا خيار لنا غيرها، ووقوفي ضد قوى الإرهاب والتطرف، كان زمنا كبيرا بما حفل به من أحداث وبما شهده أيضا من مآس وخيبات أمل، وما كان بوسعي إلا أن أكون منفعلا مع الكثير من تلك العواصف التي، بغض النظر عن طبيعتها وموقفنا منها، صنعت الكثير من ذاكرتنا القريبة.

في أغلب ما كتبت، تحريت الدقة وأكبر قدر من الموضوعية والحيادية، رغم حدة الصراعات ورغم رؤيتي للكثيرين من حولي يُسحَبون نحو الخنادق، ورغم التزاماتي السياسية، أزعم بأنني كنت وفيا دائما للحقل الذي جئت منه، وأعني به الحقل الأكاديمي، وكنت أحاول أن أبحث في التحليل عما هو أبعد من الظاهر، متجنبا أن تخدعني فوضى الخطابات والمواقف، أو أن يحيد بي انحياز شخصي ما عن ممارسة النقد أحيانا بقسوة أدت أحيانا إلى «زعل» الكثير من الأصدقاء والكتل السياسية. أؤمن بأن التغيير نحو الأفضل لا يمكن أن يتم بمنطق الخنادق، باللواذ داخل سجن الهويات والانحيازات الصغرى والتصرف كخائفين دائما من خطر داهم. مسؤولية الكاتب والمثقف والأكاديمي هي أن يرتقوا بمجتمعاتهم، وبالتالي أن يكونوا قادرين على رؤية عيوب تلك المجتمعات وكشفها ونقدها، فذلك هو الذي يجعلهم مفيدين لأوطانهم ولأنفسهم.

من الصعب دائما على الأكاديمي أن يجمع بين حسه المعرفي والنقدي، والعمل السياسي، لكنني وجدت فرصة ربما لم تتوفر لغيري من حيث تفهم الجميع، بمن فيهم أولئك الذين طالهم النقد أحيانا، وتمكنت من الحفاظ على استقلاليتي التي بفضلها وجد قلمي فضاءات واسعة ليحلق فيها. وسواء كان الأمر متعلقا ببلدي العراق، أو بالمجتمعات العربية، وعلى الرغم من إحساس الكثير من العراقيين من ظلم ذوي القربى، فقد كان هاجسي دائما في التحليل هو أن أنتصر لتلك المجتمعات، لحقها بالحياة الحرة بلا استبداد أو ظلم أو هتك للكرامة، وعلى الرغم من كثرة الغيوم السوداء والإحباطات، ما زلت أرى الأمل ماثلا أمامي وأنا أتطلع للأجيال الجديدة التي بنهوضها من الرماد ونضالها الذي فاجأ العالم، ربما ستصنع غدا أفضل بكثير مما عشناه نحن.

لا بد هنا أن أشيد بصحيفة «الشرق الأوسط» وهيئة تحريرها التي حرصت دائما على توفير هذه الإطلالة لي كل يوم أحد، ولم يحدث أبدا أن تدخل أحد في ما أكتب من نصوص أو أجرى أي تغيير على ما كتبت، أو راجعني حول أي فكرة طرحتها. جعلني ذلك أشعر بثقل المسؤولية وأتذكر دائما أنني أخاطب جمهورا عريضا على مساحة الأرض الناطقة بالعربية، سعيت إلى أن أرتقي بما أكتب إلى هواجسهم وآمالهم جميعا، رغم أنني ركزت في الغالب على الموضوع العراقي. لقد كنت الكاتب الوحيد في الصحيفة الذي يكتب من داخل العراق - عين العاصفة - ولذلك حرصت على أن أطرح هواجس هذا الداخل وآماله ومخاضاته، بما يقرب المسافة بينه وبين محيطه العربي، دون أن أحيد عن مهمة التحليل العلمي للظواهر والنقد لكل ما هو سلبي من سلوكيات ومواقف وتوجهات.

سأغيب عن الصحيفة بسبب طبيعة ارتباطاتي الجديدة التي لن تسمح لي بالتواصل على هذه النافذة الأسبوعية الرائعة، ولكن الأمل سيحدوني دائما بالعودة يوما ما عندما سيتسنى لي ذلك، ففرصة الكتابة الأسبوعية كانت بالنسبة لي أيضا هي فرصة للمراجعة وإعادة التفكير والتبصر والانفتاح. بالطبع أدرك أن تلك المواصفات لا تعجب كثيرين ممن يريدون من الكتاب أن يكونوا ناطقين باسم انحيازاتهم، وخلافا للكاتب الذي ينحاز لموقف طرف واحد فيواجه بنقد الطرف المقابل، فإن من يسعى إلى أن يكون حياديا قد يواجه بنقد المتطرفين من كلا الجانبين، وفي رأيي فإن ذلك فوز كبير للكاتب أن يصبح عدوا للمتطرفين على تناقض أهوائهم.

ولكنني إذ أودع قرائي، سواء من اتفق أو اختلف معي، أشكرهم جميعا على ما استقطعوه من وقت لقراءة ما أكتب، وعلى ما قدموه من آراء وتعليقات أغنت في أحيان كثيرة ما كتبت.

مرة أخرى، شكرا لـ«الشرق الأوسط» التي استضافتني بكرم عال طوال هذه السنوات. إذ أتوقف عن الكتابة في الصحيفة، سأحرص دائما على قراءتها ومتابعة ما ينتجه كتابها المتميزون، وسآمل دائما بالعودة إليها يوما ما، ولذلك لا أقول وداعا، بل إلى اللقاء.