مطالب عرب «اللوبي المصري»

TT

صحيح أن في مصر من المضحكات وأن الضحك هنا أشبه بالبكاء. وغالب الظن أن الشاعر العربي عندما أورد القول المشار إليه في صيغة بيت يُجسد بالصدر وبالعجز واقع الحال استوقفه أمر تعيشه مصر نعتقد أنه مثل الأمر الذي تابعناه يوم الجمعة الماضي (16 ديسمبر/كانون الأول 2011) بأسف بالغ وكان امتدادا لحالات الأسف الماضية على ما يقترفه مصريون في حق بلدهم ومستقبلهم.

لقد خُيِّل إلينا أن الاستحقاق الانتخابي للبرلمان الأول في عهد مصر بعد مبارك وسعة صدر جنرالات «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» وتحمُّلهم إساءات لفظية غير مبررة ثم بعد ذلك استبدال حكومة الدكتور عصام شرف العاجزة رغم ثوريتها بحكومة الدكتور كمال الجنزوري العجوزة وفي الوقت نفسه الواعدة بحكم الخبرة والتجربة، أن المصريين سيحمدون ويشكرون ويعقلون وبالتالي يتم الجلاء عن ميدان التحرير ويستعيد بالتالي هذا الميدان هيبته خاليا من الخيام والفوضى، وينصرف كل طيف مصري إلى تأدية الواجب المُلقى عليه تجاه بلده بدءا بجنرالات السلطة العسكرية الانتقالية مرورا بالحكومة المُستحدثة وصولا إلى كل من اعترض واعتصم.

ولكن الذي تابعناه في تلك الجمعة كان أفعالا أشبه بتلك التي تصدر عن مهلوسين فقدوا تحت تأثير ما يتناولونه شما أو يدخنونه جوزة، البوصلة فتصرفوا بتحريض أو إيعاز من مجنديهم المحليين أو الأجانب بما يؤذي بلدهم ويشوه تاريخهم ويحرق تراثهم ويضع هؤلاء الذين تسببوا بما نشير إليه في خانة الذين يحتاجون إلى عملية تأهيل. ويكفي للتدليل على ما نقول أن ما حدث لمبنى «المجمع العلمي» و«الجمعية الجغرافية المصرية» وكيف أن نزق المتعاطين أو المهلوسين، تسبَّب في إحراق تراث تاريخي حيث أكلت النيران ألوف الوثائق والخرائط النادرة والمخطوطات والرسوم من بينها أجزاء كتاب «وصف مصر» بخط اليد وهي أعمال لو عرضتْها إحدى دور المزادات العالمية لعادت على مصر بالمليارات ولكانت كافية لتأمين حلول لبعض الأزمات التي يعاني منها تسعون في المائة من الثمانين مليون مصري.

وهذه السلوكيات تستوجب، وبما هو سائد من إجراءات، حماية دولية لتراث مصر من آثار ومتاحف ومخطوطات بل وإسناد هذه المهمة إلى «اليونيسكو» خشية أن تتكرر المأساة في أماكن أخرى من مصر ما دام «مجتمع الاعتصام» من جهة وجماعات البلطجة من جهة أخرى يفتعلون بمصر ما هو أشبه بالاغتصاب للسمعة والكرامة والتراث.

ويستوقفنا ونحن نقول ذلك كيف أنه في الوقت الذي يزداد فيه «متحف الفن الإسلامي» في الدوحة أحد إنجازات عهد أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ازدهارا وتتطلع متاحف عريقة في أوروبا إلى رفد قاعاتها بتراثيات إسلامية وعربية بل حتى إن إحدى دور المزادات اهتمت بمخطوطات حديثة نوعا ما وهي عبارة عن مقالات أو قصص أو بداية روايات مكتوبة بخط اليد للروائي المصري النوبلي الراحل نجيب محفوظ كانت تنوي بيعها لمن يدفع أعلى سعر.. أنه في هذا الوقت يصيب مبنى «المجمع العلمي» و«الجمعية الجغرافية المصرية» إحراقا لا يجد من يطفئ نيرانه لثروة تراثية عربية - إسلامية - دولية تماما كما أصاب الثروة التراثية العراقية إغراقا على أيدي المغولي هولاكو، وهكذا فإن مياه نهر دجلة التي تنوعت ألوانها بفعل أنواع حبر المخطوطات التي رماها الغزاة لعنة الله عليهم في النهر، هي مثل الدخان الأسود الذي غطى سماء القاهرة وكان عبارة عن وثائق ومخطوطات ورسومات وخرائط أتت عليها النار بفعل حرائق من مهلوسين أو متعاطين أو شمَّامين مندسين مجندين لتخريب مصر.. ألا شُلَّت أيديهم.

ومن حق أحد أفراد «اللوبي المصري» في العالم العربي مثل حالي أن يحزن كثير الحزن وهو يتابع هذا المسلسل التدميري لمصر التاريخ والتراث والسمعة على أيدي بعض أبنائها. كما من حقه أن ينادي وبنبرة المحزون على حال المحروسة مصر «ممر دولي آمن» لتراثها يحميها من شرور الذين بلغوا من العقوق والجهالة أعلى الدراجات ومن دون أن تقلل «الثورية» من هذا الوزر. ومن هنا الإشارة إلى دور منظمة «اليونيسكو» وحدها أو بمشاركة نظيرتها الإسلامية «الأليسكو» من أجل إنقاذ التراثيات. ألم ينشغل العالم ذات يوم في الخمسينات من أجل إنقاذ آثار أبو سمبل.

كما أن من حق أحد أفراد «اللوبي المصري» في العالم العربي مثل حالي أن يستهجن اتساع مساحة انحدار تعيشه مصر مقابل التئام كثير الرقي للجرح التونسي تتولاه أطيافها السياسية والعسكرية بحيث تتم انتخابات برلمانية وفق الأصول وتسفر عن نتائج على قاعدة التنوع وتتشكل حكومة بالتوافق ويتم انتخاب رئيس للجمهورية بالتراضي ورضا المؤسسة العسكرية، وكل ذلك من دون أن يمتهن التوانسة التخييم في الميادين والشوارع كما من دون أن يحوِّلوا المظاهرة المشروعة إلى اعتصام، ومن دون أن تبلغ بهم الانفعالات «الثورية» حد منع رئيس حكومتهم من دخول مكتبه وبكل احترام ورعاية لكي ينصرف إلى إدارة شؤون البلد بما يعيد إليها الرونق ويحافظ على الهيبة. ثم أليس من الطبيعي أن نحزن عندما نرى التوانسة يمارسون باحترام وهدوء واجب إحياء الذكرى السنوية لشهيد الحرية البوعزيزي فيما بعض المصريين المغرَّر بهم أو الذين لا يدرون ماذا يفعلون ولا يستحقون مغفرة البتة، يستحضرون ظاهرة الانتفاضة الفلسطينية وكيف كان يتم رشق جنود الاحتلال الإسرائيلي بالحجارة مع التنويه بفعْل الفتية الفلسطينيين كون نضالهم مشروعا وموضع تقدير لأنهم كانوا يرجمون عدوا يحتل أرضهم بعدما اغتصب وطنهم. لكن رمي أفراد الجيش المصري الذي يحمي مصر وأنهى ببطولات مشهود لها احتلال إسرائيل وحمى انتفاضة 25 يناير ولولاه لكان نظام مبارك سحق هذه الانتفاضة.. لكن رمي الجنود المصريين بالحجارة هو نكران للجمائل وتحريض على عسكرة مصر وانتقاص للسمعة والهيبة ومدعاة للحزن.

كما يشمل حزننا كيف أنه حتى إخواننا أهل اليمن تصرفوا بعد التغيير المستند إلى المبادرة الخليجية بما يبشر بالتهدئة وإن كانت تواصلت بعض الشيء حالات الاعتراض المتأثرة بالمضغ المبغوض كما حال التعاطي المكروه في مصر من جانب البعض وكلاهما يجعل دماغ المرء يتصرف بما هو ليس لصالح نفس صاحبه ومصلحة وطنه. وحيث إن «اللوبي المصري» في العالم العربي يتسم بالفرادة بمعنى أن ليس لتونس ولا لليمن ما لمصر لدى العرب، فإن القلق على مصر والخشية مما قد يصيبها من مكاره هو نوع من الشعور التلقائي والوجداني.

والقول بأن هناك «اللوبي المصري» في العالم العربي يعود إلى أن أكثرية أبناء الأمة من المحيط إلى الخليج ومن قَبْل ازدهار الأحوال بفعل طفرة الغاز بعد النفط، إما تعلَّموا في جامعة مصر أو أزهرها أو معاهدها، وإما اقتدوا بها سياسيا، وإما طلبوا الأمان في ربوعها.. فضلا عن أنها ساهمت في إنجاز استقلال أقطار عربية خليجية ومغاربية. وهذا بالنسبة إلى النخبة العربية المثقفة والسياسية والوطنية، ولذوي الاقتدار نسبيا ممن لا إمكانات كافية لهم لطلب العِلْم في جامعات أوروبا وأميركا. أما بالنسبة إلى العوام فإن الارتباط بمصر لجهة أفلام السينما والغناء أوجد حالة من العلاقة الوجدانية جعلت العربي يشعر أن مصر وطنه الثاني، أو أنه مصري الهوى في بلده. وبطبيعة الحال فإنه عندما تعصف بمصر عاصفة هوجاء يجد نفسه متفاعلا مع مصابها. لكنه يأسف كثير الأسف عندما يجد أن المصائب تأتيها من بعض بني قومها ومن الطيف الأهوج في المحروسة التي تنزف كبرياؤها ويتم إحراق تراثها.. ومن دون أن يفيق بعض أبنائها من أوهام الدخان الأزرق. ويا لويل هؤلاء إذا هم عن التعقل غافلون وعن الإيمان ساهون وإلى ما لا يرضاه رب العالمين سائرون.