عندما يصبح الحمق.. استراتيجية وسياسة في «الهلال الخصيب»

TT

«أيهما الأحمق.. الطفل الذي يخاف من الظلام، أم الرجل الذي يخشى النور؟»

(موريس فريهيل)

خلال الأسبوع الماضي، وسط تفاقم أزمة الحكم في العراق، أطل أحد أتباع رئيس وزراء العراق نوري المالكي من العاصمة اللبنانية بيروت على شاشة إحدى الفضائيات ليدلي بدلوه في الأزمة العراقية. وعملا بالمقولة المعروفة «اعرفوا أسرارهم من صغارهم»، قال التابع ما خجل حتى المالكي عن قوله، إذ ارتأى ضرورة إخراج وزراء كتلة «العراقية» من الحكومة.. ومن ثم تشكيل حكومة أغلبية من كتلة المالكي ائتلاف «دولة القانون»، وهذا انطلاقا - كما قال التابع - من واقع أن مجموع السنة العرب والأكراد في العراق لا يزيد على 36% من مجموع السكان.. مقابل أغلبية شيعية مطلقة تستطيع تشكيل حكومة من دون الحاجة إلى ائتلافات.

هذا الكلام، في اعتقادي، جال في خاطر السيد المالكي قبل أن يقرر فتح النار على فكرة حكومة «الوحدة الوطنية» التي شكّلها، على ما يبدو، اضطرارا لإرضاء قوات الاحتلال الأميركي، والمحافظة على هذا الرضا حتى موعد انسحاب آخر جندي أميركي... وهذا - طبعا - مع تذكّر أن المالكي ورهطه كانوا في طليعة من استدعوا قوات الاحتلال ورحبوا بها وأحسنوا ضيافتها واستفادوا من احتلالها.

مثير في كلام تابع المالكي، أنه أطلق من بيروت، التي غدت على الرغم من إرادة أهلها أحد أبرز «منابر» محور طهران - دمشق الإعلامية. ومثير أيضا أنه يأتي خلال أيام معدودات من تحذير المالكي من أن «إطاحة الرئيس السوري بشار الأسد أو قتله يعرض المنطقة لحرب أهلية»! وأيضا يتعزّز عنصر «الإثارة» أمام خلفية تشديد النظام السوري بطشه ضد شعبه، وتفنّنه في خداع «جامعة الدول العربية».. و«الضحك عليها» وعلى «مبادرتها» العرجاء.

لم يتذكّر تابع المالكي أنه من وجهة نظر طائفية بحتة، أن لا حاجة أبدا إلى «حرب أهلية» إذا ما حصلت الأغلبية الطائفية في سوريا على ما يريده حضرته للأغلبية الطائفية في العراق. ثم مَن قال أصلا إن السيد المالكي يعبّر بالضرورة - مثله مثل السيد حسن نصر الله في لبنان والرئيس بشار الأسد في سوريا - عن مواقف «جميع» مَن يدعي الثلاثة تمثيلهم طائفيا؟

نحن اليوم - شئنا أم أبينا - نعيش انكشاف «مشروع استراتيجي إقليمي» كانت كثرة من المحلّلين الجادين يفكّرون به ويتخوّفون من تداعياته، لكنهم كانوا سرعان ما يكذِّبون هواجسهم، ويحاولون طمأنة عقولهم القلقة باستحالة وصول الغطرسة الرعناء إلى حد السير قدما بمشروع هيمنة طائفية - مذهبية صارخة، واستطرادا، استحالة استفزاز ردة فعل مضادة تفجر حربا «إسلامية - إسلامية» لا تبقي ولا تذر.

لكن مع تجاوز الرقم الرسمي لعدد ضحايا مجازر سوريا حد الـ6000 قتيل، ودخول الكارثة السورية مرحلة السيارات المفخخة، وخروج الخطاب السياسي ذي الإيحاءات الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان عن حدود التحفّظ والحيطة، ما عاد هناك شك في أن منطقة المشرق العربي دخلت حقا «الخط الأحمر». ولئن كان الشق العراقي من المشروع قد وضعه المالكي وداعموه وأتباعه على نار حامية، فإن لبنانيي المحور عينه، ما قصّروا.. ولا يقصّرون البتة في ميادين الدفاع عن «العروبة» كما يجسدها نظام دمشق، ومن خلفه، الولي الفقيه علي خامنئي..

فبالأمس، أطل إيلي الفرزلي، نائب رئيس مجلس النواب اللبناني السابق - أيام الهيمنة السورية - كالأسد الهصور على شاشة فضائية «بي بي سي عربي» ليهاجم ما سماه «المشروع التركي السلجوقي»، وذلك في سياق دفاعه البطولي عن النظام السوري.. واتهامه الأصوليين «السلاجقة» و«القاعديين» بالتفجيرين الإجراميين في دمشق.

وقبله بيوم أو اثنين تكلّم فايز غصن، وزير الدفاع اللبناني التابع لكتلة النائب سليمان فرنجية، أحد أقرب الزعماء اللبنانيين شخصيا إلى الرئيس السوري، عن «انتقال عناصر القاعدة عبر الحدود اللبنانية السورية عن طريق بلدة عرسال»، حيث يوجد أكبر تجمّع سكاني سنّي في شمال شرقي لبنان. ومن ثم، فور وقوع تفجيري دمشق، بادر جهاد مقدسي، الناطق باسم وزارة الخارجية السورية، إلى «الاستشهاد» بكلام غصن، مع أن الملمّين بالمشهد السياسي اللبناني يعرفون جيدا أن خبرات الوزير غصن في المسائل العسكرية والأمنية متواضعة نسبيا - على الأقل بالمقارنة مع خبرات زميله «الجنرال» ميشال عون -، وبناء عليه من غير المستبعد أن تكون إفادته العسكرية القيّمة مستقاة من مصادر «أهل البيت».. ولا ترقى لفوق مستوى الشكوك!

أيضا خلال الأسبوع الماضي، نفّذ محوَر «حزب الله» في الحكومة اللبنانية - المكوّن من وزيري الحزب ووزراء الكتلتين التابعتين له (حركة أمل وتيار ميشال عون) «انقلابا» مهينا على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في موضوع سياسة الأجور، قاطعا الشك باليقين لجهة هوية القوة الممسكة حقا بالقرار السياسي، ناهيك من العسكري، في لبنان.

هذا التصعيد الصدامي من جانب القائمين على هذا المشروع الطائفي الإقليمي، من شأنه دفع المنطقة إلى شفير الهاوية، لا سيما في ظل التفويض الانتخابي الكبير للخطاب الديني السنّي في مصر، ومن قبله التقدم الملموس الذي تحققه القوى الإسلامية السنّية في شمال أفريقيا.

المنطقة العربية أمامها اليوم «سيناريو» غاية في الخطورة.. طالما دغدغ أحلام مخططي السياسة الإسرائيلية. وفيه يبدو جليا أن القيادات السياسية لا تتحلّى بما يكفي من الأخلاق والعقل والمسؤولية لاحتواء الخطر الداهم، ولا يظهر أن الوعي الشعبي في مستوى يسمح بمحاسبة المراهنين على الفتنة والوالغين بالدم، ووضع حد لرهاناتهم المدمّرة.