بعد مرور تسعة أعوام

TT

في الثامن عشر من ديسمبر (كانون الأول)، وبعد تسعة أعوام من بدء الحرب على العراق، غادرت القوات الأميركية البلاد أخيرا. وقد اختارت شبكة «سي إن إن» هذا العنوان الرئيسي: «حرب العراق المهلكة تنتهي برحيل آخر القوات الأميركية». ولم تكن حرب العراق مهلكة فحسب، لكنها أيضا كانت واحدة من أطول الحروب في التاريخ المعاصر. لماذا أجلت أميركا خروجها من العراق حتى 18 ديسمبر (كانون الأول) 2011؟ وما هو الإنجاز الرئيسي لهذه الحرب؟ وهل غادرت أميركا العراق كطرف فائز أم خاسر؟

منذ عام 2004، شاهدنا بدء وتطور حركة قوية في الولايات المتحدة تصر على الانسحاب الأميركي من العراق.

على سبيل المثال، نشر جورج ماكجفرن، السيناتور الأميركي السابق، وويليام بولك، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة شيكاغو، اقتراحا مفصلا للانسحاب الأميركي من العراق في كتابهما «الخروج من العراق: خطة عملية للانسحاب الفوري»، وقد نشر هذا الكتاب عام 2006.

ولم تكن هذه السنوات التسع سنوات سهلة سواء للولايات المتحدة أو العراق. لكن دعونا نعود عشرة أعوام للوراء، عندما بدأ هذا الأمر برمته. في هذا الوقت، كانت إدارة بوش تنظم الهجوم ضد العراق والإطاحة بصدام حسين. ووفقا لكتاب كوندوليزا رايس، يبدو أن قرار الهجوم على العراق قد فرضه ديك تشيني ودونالد رامسفيلد على الرئيس بوش.

وبعد احتلال العراق، كتب توماس فريدمان مقالا في صحيفة «نيويورك تايمز»، وقد نشر هذا المقال باللغة العربية في جريدة «الشرق الأوسط»، وأقر فريدمان في هذا المقال صراحة: «لقد ذهبنا إلى العراق لنبقى هناك بسبب النفط!»، لكن أوباما لديه تفسير مختلف الآن، حيث قال: «أستطيع أن أذكر أن قواتنا نجحت في مهمة تقديم العراق إلى العراقيين بصورة تمنحهم فرصة من أجل مستقبل ناجح».

من ناحية أخرى، رد طارق الهاشمي على أوباما فجأة قائلا إن استقرار العراق في خطر. وكما ندرك، فهو في محافظة السليمانية وليس في بغداد! على الأقل يمكننا أن نقول إن الحكومة العراقية من الممكن أن تواجه كارثة كبيرة، ففي يوم الأربعاء الموافق 21 ديسمبر (كانون الأول)، ونتيجة لما يزيد على عشرة انفجارات في بغداد، قتل وجرح الكثير من الأشخاص. ويبدو أننا سنشاهد التداعيات والإنجازات الحقيقية لتدخل الولايات المتحدة وحلف الناتو في العراق. وهذا يعني أن حرب العراق ليست قصة حب كما تخيل الرئيس أوباما.

ولدى حافظ شيرازي تفسير عبقري للحب؛ عندما تحدث إلى محبوبته في إحدى قصائده الغزلية، قائلا إنه بسبب حبه لها، أصبح يشعر وكأنه شخص آخر، ومن خلال اتحاده معها، شعر بأنه لا يملك سوى النفس الذي يتنفسه.

دعونا أولا نلقي نظرة على التكلفة الفعلية لحرب العراق.

لقد بلغت تكلفة حرب العراق 1.000.000.000.000 (أي تريليون) دولار وتسببت في مقتل 4.485 جنديا بالجيش الأميركي في العراق. كذلك أدت إلى إصابة 32.226 عامل خدمات في ضربات معادية ومقتل 113.728 مدنيا عراقيا.

وقد تبين أن احتلال العراق باهظ التكلفة، كما أنه تسبب في مقتل الكثير وأهدر مليارات الدولارات. وقد قام جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وليندا بيلميز - بتأليف كتاب حمل اسم: «الحرب التي تكلفت 3 تريليونات دولار». وفي هذا الكتاب، ذكروا أن الحرب في العراق تكلفت ما يزيد كثيرا على التريليون دولار المذكورة. وكان هذا هو الثمن الذي اضطرت الولايات المتحدة إلى دفعه في مقابل مغامرتها في الشرق الأوسط، وقد كانت هناك أكذوبتان رئيسيتان تبرران شن الحرب على العراق.

وإذا ما قارنت بين كتاب رايس وتشيني، ستدرك أن رايس حاولت أن تقر بهاتين الأكذوبتين، إلا أن تشيني حاول أن يتجاهلهما. إن ما أريد أن أقوله هو أن هناك شيئا أعلى قيمة من الأموال الباهظة التي تم إنفاقها، بل وحتى من الأبرياء الذين قتلوا وجرحوا في الحرب، إنهم الأشخاص الذين أصيبوا بإعاقات والذين يحيون الآن حياة مريرة.

في الواقع، أعتقد أن الحقيقة قد تم التضحية بها لصالح السلطة. إن الأمر أشبه بالمنزل المشيد على الرمال والذي سينهار لا محالة في وقت ما. ففي أوقات الحروب، توضع الحقيقة في صندوق أسود، بينما تكون الأكاذيب هي الحاكم الرئيسي. لقد توفي فاكلاف هافل في الثامن عشر من ديسمبر، وقد كان أحد رموز الصدق في عصرنا. ويبدو لي أن الحقيقة كانت طريقه ومنهجه خلال حياته بأكملها.

لقد توفي دون أن يقتل أو يعذب أحدا، ودون أن يترك أي ذكرى مريرة لدى شعبه. وقد يبدو الأمر كما لو أن الحب والحرية مرتبطان بتذكر هافل، وعلى العكس من ذلك، عندما نتذكر بوش وتشيني، نتذكر الآلاف من القتلى أو الأشخاص الذين تم تعذيبهم وانتهى بهم الحال إلى الإصابة بإعاقة ما وهكذا دواليك.

إنني أعتقد أنه على الرغم من رحيل أميركا من العراق، فقد ظلت الثقافة المعادية المتمثلة في مشاعر الكراهية والكذب هناك. لقد رحلت أميركا عن العراق، لكن الجراح المريرة لا تزال هناك. لقد قسموا العراق، كدولة وشعب، إلى ثلاثة أجزاء. ولسوء الحظ، لم تكن أميركا وحلفاؤها وحدهم هم من فشلوا فشلا ذريعا في العراق. لقد فشلت العراق كدولة وشعب أيضا. إن الاستقرار والأمن هما المطلبان الرئيسيان لتحقيق كل أنواع التقدم، فالتقدم الاقتصادي والعدالة والديمقراطية والبناء الشامل للبلاد جميعها ترتكز على الاستقرار. لقد تركت أميركا العراق في وضع متداع للغاية، وطارق الهاشمي أفضل مثال لتبرير هذا الادعاء، فكلا وجهي العملة متشابهان، وسواء أكان طارق الهاشمي قد قام بتنظيم الجماعات الإرهابية أم أنه بريء، فقد اضطر إلى مغادرة بغداد، وهذا يعني، كما ذكر وزير الخارجية العراقي، هوشيار زيباري، أن الحكومة العراقية تواجه أزمة خطيرة، وستكون النتيجة هي أن عدم الاستقرار هو جوهر هذه الحكومة.

أعتقد أننا الآن نستطيع أن نقرأ نص حرب العراق كلمة كلمة، ونحن بحاجة إلى أن نقرأ ونعيد قراءة الحرب من البداية إلى النهاية، مع أنني أشك في أننا نستطيع أن نستخدم كلمة النهاية، وذلك نظرا لأن النظر إلى الوضع العراقي المتداعي يجعل التفاؤل أمرا بعيد المنال. وأعتقد أن العراقيين يجب أن يدركوا الآن أن مستقبل العراق أكثر أهمية من أي شيء آخر، وأن الطائفية والتطرف والنهج الطائش عوامل ستدمر العراق. وكما يقال، فإن البناء صعب لكن الهدم والتدمير سهل. ولقد شهدنا احتراق المجمع العلمي في القاهرة، وهو واحد من أهم الكنوز الثقافية في العالم، لكن من يستطيع أن يعيد إحياء هذا الدليل المحترق ومن يستطيع أن يعيد الكتب المفقودة؟

لقد أصبح العراق درسا آخر لا ينسى بالنسبة لأميركا بعد فيتنام، لكن هل تتعلم أميركا هذه المرة؟ أم أنها ستنسى ثانية وتعد نفسها لكارثة أخرى؟

« الفشل في العراق، على غرار الفشل السابق في فيتنام، سيكون له تأثير مؤلم. ومن المؤكد أن أميركا ستكون أكثر كرها للتورط في أي مغامرة من هذا النوع» (ستيغليتز، الفصل الثامن، صفحة 185، «التعلم من أخطائنا والإصلاح من أجل المستقبل»).