الفكر هو الأساس

TT

حسب أقوال الناشطين الذين لا نعرف هويتهم، فإن الأنظمة العربية بدأت في اتباع سياسة جديدة، خلاصتها أن هذه الأنظمة هي التي تحرك عمليات المعارضة ضد نفسها، وأن هذه الأنظمة هي التي تنسف وتفجر لكي تتهم الآخرين.

بحسب هذا المنطق، ينحدر العمل السياسي المعارض نحو تفجير القنابل، وينحدر العمل الإعلامي نحو الضحك على عقول الناس، وتبادر الأنظمة إلى حماية نفسها باتخاذ إجراءات أمنية جديدة، ويخسر الطرف المعارض إمكانية كسب تعاطف الجمهور مع سياسته المعارضة.

وتاريخيا.. تدخل الجهات المعارضة إلى العمل السياسي، معلنة برنامجها المعارض، وتواصل إعلام الناس بنشاطها من أجل كسب الولاء والتأييد. أما حين تعارض وتنكر، فإن النتيجة الوحيدة هي الفوضى، والفوضى فقط، من دون القدرة على إحداث تغيير في الموقف الشعبي، باتجاه زيادة معارضته للنظام الذي تحاربه.

وضع غريب.. ومنطق غريب.. ومعارضة غريبة. ولا يفيد هنا القول إن الهدف من هذا الإنكار هو عدم إتاحة الفرصة للنظام المحارب، بأن يتخذ إجراءات أمنية ضد من يحاربونه، فالنظام هو أول من يعرف معارضيه، وهو أكثر جهة تملك معلومات تفصيلية عن هؤلاء المعارضين. ثم ما الفائدة من العمل السياسي حين تكون أفكاره ونشاطاته سرية؟ إذ في هذه الحالة يبقى الوضع الشعبي حياديا، ولا ينحاز إلى المعارضين، ولا ينحاز إلى النظام.

إن من بديهيات العمل الشعبي المعارض، ومن بديهيات العمل الحزبي المعارض بالذات، أن الجهة الفاعلة تعلن برنامجها، وتتباهى بنشاطاتها المعارضة لكي تكسب التأييد، أما المعارضة والإنكار فلا يجلبان سوى الفوضى من ناحية، وعجز الجهات المعارضة عن زيادة قوتها من ناحية أخرى. وهذه أغرب نظرية في العمل السياسي، العلني منه والسري. وإذا كان هناك دائما ميل شعبي لاتهام الأنظمة ونقدها، فإن هذا الوضع من شأنه أن يولد ميلا شعبيا جديدا لاتهام المعارضة ونقدها، وأول الانتقادات أنها لا تعمل، وبشهادة التنظيمات المعارضة نفسها.

معارضة الأنظمة، وبخاصة تلك المتهمة بالديكتاتورية، تحتاج بداهة إلى برامج معلنة، تفسر أسباب المعارضة وأهدافها، وحين تغيب هذه البرامج عن العلن، تكون الجهات المعارضة هي أول الخاسرين، ويكون البديل عن ذلك هو اللجوء إلى العنف السري. والعنف السري له تاريخ طويل في العمل السياسي «العالمي»، يبدأ بالاغتيالات مثلا، ثم ينتهي بسرعة نحو الاختباء والتقلص، بسبب عدم القدرة العلنية على التفاعل مع الجماهير، وتتغير التسمية فورا، فلا يعود هناك عمل سياسي شعبي، بل يصبح عملا سريا إرهابيا.

العمل السري الإرهابي له تاريخ طويل أيضا، ومن يريد أن يستزيد من ذلك، يستطيع أن يرجع إلى مرحلة العنف والاغتيالات في مرحلة المعارضة لحكم القياصرة في روسيا قبل الاتحاد السوفياتي. ويستطيع أن يرجع إلى كتب المنظرين السياسيين الذين شرحوا طويلا الفارق النوعي بين العمل السياسي الشعبي وبين الإرهاب؛ حيث يبدأ الإرهاب منظما وقويا، وحين ينجز عمليته الأولى العلنية، يأخذ بالانحسار؛ إذ يصبح مضطرا للاختفاء عن أعين الأمن. وفي حالة الاختفاء يفقد صلته بالجماهير، ولا يعود قادرا على تجديد شباب تنظيماته.

تعاني الجهات العربية المعارضة عدة ظواهر سلبية، منها:

أولا: طرح أهداف نظرية لا صلة لها بالواقع؛ فمثلا يكون التنظيم المعارض مكونا من عدد صغير من الأشخاص، لنقل عشرات أو مئات، وهو يعلن، على الرغم من ذلك، أن هدفه إسقاط النظام في هذا البلد أو ذاك. إنه لا يدعو إلى الإصلاح، ولا يدعو إلى التدرج في العمل، بل يذهب فورا إلى العمل النهائي الذي تعجز قواه الذاتية عن تحقيقه، ويتطور وضعه من فشل إلى فشل.

ثانيا: إنه لا يقدم أهدافا نظرية، ولا يقدم شخصيات قيادية يمكن إقناع الناس بأنها قابلة للتنفيذ (الأهداف)، وأنها ستكون أفضل مما هو قائم (القيادات).

ثم هناك وسائل العمل. وفي تاريخ العمل السياسي، لعب المنشور السري دورا في التبشير والتحريض، لكن التكنولوجيا الحديثة تقدم للمعارضين وسائل تؤهلهم لانتشار واسع، ونكاد نقول لانتشار عالمي. والأمر المهم هنا أن يكون لديك ما تقوله، أن يكون لديك برنامجك الواضح، وألا يقتصر الأمر على شعارات الاتهام للآخرين. إن الذين يعملون من خلال الكومبيوتر، ومن خلال الـ«فيس بوك»، أصبحوا قادرين على الوصول إلى آلاف وآلاف الناس، لكن هل لديهم حجج جديرة بإقناع آلاف الناس؟ هذا هو السؤال.. وهذا هو التحدي.

أخطر ما يمكن أن تفرزه هذه الحالة من سلبيات، أن يشعر القائمون على العمل التبشيري بالعجز أو بالفشل، وهنا يفكرون باللجوء إلى أساليب العمل الأخرى، وأولها العنف بكل أشكاله. وقد سبق لكثير من الأحزاب، ولكثير من الحركات الشعبية، وفي الكثير من بلدان العالم، أن وصلت إلى هذه النتيجة، وأحيانا مارستها، لكن النتيجة العملية كانت دائما هي الفشل؛ فالعمل السياسي بطبيعته إما أن يكون شعبيا وإما ألا يكون. العمل الشعبي هو الذي يستمر، والعمل العنيف قد يبدأ، لكن مدة بقائه مشكوك بأمرها.

ثم إن العمل السياسي يحتاج إلى بناء، بناء قاعدة شعبية منظمة، ويحتاج بناء هذه القاعدة إلى الصبر. والذي يحدث عمليا أن عشرة أو عشرين شخصا قد يجتمعون لتحقيق عمل ما، ويقومون بإحصاء قوتهم وتقييمها، ويصلون بشكل طبيعي إلى الإقرار بعجزهم عن إنجاز ما يريدونه، فيذهبون مباشرة إلى الفكرة النقيض، أي إلى فكرة العنف، ويبدو لهم العنف في البداية مغريا، ثم يكتشفون أن العنف هو بمثابة حائط ما يلبثون أن يصطدموا به بسرعة.

تبقى النقطة الأكبر والأهم: ما برنامج التغيير الذي نريده؟ هل نريد أن نعبر عن حالة غضب وكفى الله المؤمنين شر القتال، أم نريد الوصول إلى هدف كبير، يحقق مصالح الناس؟ وهنا تبرز الشروط اللازمة لذلك، التي لا يمكن البدء بعمل ما قبل توافرها.

يفترض في الدعوة للإصلاح أن تكون ناجحة؛ لأنها تتحدث عن مصالح الناس وخدمتهم. ويفترض أن يتم الحديث عن هذه المصالح بأسلوب يجذب الناس ولا ينفرهم. ويفترض أن يتم ذلك بوسائل تحبب الناس ولا تخيفهم. وهنا يبرز دور الفكر. الفكر هو الأساس، والفكر هو المحرك، والفكر لا بد أن يكون إيجابيا وجديدا، وإلا مات في مهده. وهذا ما يفسر صعوبة العمل، وهو ما يفسر أيضا أهمية نوع الأشخاص الممارسين؛ فليس كل غاضب قادرا على القيادة، ولا بد من وعي ونضج كبيرين لدى كل من يريد أن يتصدى لهذه المسؤولية.

أما وسائل العمل الأخرى، وفي مقدمتها العنف، فإنها قد تخلق زوبعة قوية، لكن الزوبعة تدمر ما حولها من دون أن تبني.