نكاح المتعة بين الليبرالية والديكتاتورية

TT

أجمل ما في اعتراض الزميل عبد الرحمن الراشد على وصفي للقيادات الديكتاتورية العربية التي سقطت بـ«الليبرالية»، أنه فتح كوة أمل لإقناع النخب الليبرالية بإعادة النظر في رشق كل التوجهات الإسلامية بتعميم التهم بالتطرف أو حمل بذرة الإرهاب، لأنه دعاني لفرز القادة الديكتاتوريين العرب الذين أسقطتهم الثورات العربية (مع أني أومن أن في منظومتهم ليبراليين) عن الليبراليين الجادين، الذين يطبقون القيم الليبرالية الحقيقية، مثل الاحتكام إلى صناديق الاقتراع والقبول بمبدأ الحريات للجميع.. إلخ. وبالتالي فلا يصح أن يوصفوا بالليبراليين لمجرد أنهم حلقوا ذقونهم ولبسوا بدلات أنيقة، هذا الفرز المنطقي هو بالضبط ما بحت به أصواتنا، حين كنا ننادي النخب الليبرالية العربية بضرورة فرز التوجهات الإسلامية؛ معتدليها من متشدديها، ومسالميها من إرهابييها، وأن من الخطأ حشر الجميع في خانة التشدد، بمجرد أن أحدهم أطلق لحية أو قصر ثوبا أو أرخى عمامة؛ فلم نوفق في إيصال الرسالة، بل إن أحدهم وبقلة ذوق استشهد على تعميم التشدد على كل الإسلاميين، بالمثل الشعبي السعودي «ما في الفأر طاهر»!

أما ما ذكره الزميل الراشد من أن وصف «ليبرالي» لا يمكن أن يتصف به حاكم ديكتاتور، فأتفق معه تماما، لكن فات على الراشد أن «الليبرالية الديكتاتورية» لم تكن وصفا للزعيم فقط، ولكنها وصف لكل المنظومة التي تدعمه وتسوق له وتدافع عنه وتبرر تصرفاته، وهم في الغالب ممن يصنفون ليبراليين، فلو فتشت عن عدد من رموز الليبرالية في مصر وسوريا وحتى اليمن من أدباء وأكاديميين ومثقفين وتكنوقراط وفنانين وإعلاميين وروائيين وكتاب صحف، لما ترددت في وصفهم بالليبراليين، ومع ذلك دخلوا في منظومة الديكتاتور.

إذن، لم يبق إلا أن نقول إن الليبرالية العربية المهيمنة على أنظمة القمع العربية هي نوع من الليبرالية «المسخ»، أو بعبارة أوضح: حصل بين الليبرالية بنسختها العربية والديكتاتورية «نكاح متعة»، أنتج وليدا مشوها سميته «ليبراكتاتورية»، أي أنها ليبرالية في شأن تحرير المرأة والحريات الفكرية والدينية، لكنها ديكتاتورية قمعية في السياسة. خذ حسني مبارك كمثال واضح، ففي عهده وجدت الحريات الإعلامية والدينية وحقوق المرأة، لكنه كان قمعيا ديكتاتورا في السياسة، إذن فالليبرالية العربية بعيدة عن قيم الليبرالية الحقيقية، تماما مثل الحركات الإرهابية التي يضفون عليها إسلامية، وهي أبعد ما تكون عن القيم الإسلامية السمحة.

هذه الليبرالية المشوهة ليست حكرا على الأنظمة الديكتاتورية التي سقطت، بل حتى بعض الدول الخليجية الصغيرة نلاحظ أنها تنزع نحو الليبرالية، فقد منحت الحريات للمرأة وزادت الكيلة، ورعت الأقليات الدينية لدرجة إنشاء كنائس بدعم حكومي. ولكن الليبرالية الخليجية ليست بعيدة عن نسخة الليبرالية العربية، لأن قطار ليبراليتها اصطدم عند جدار الحريات السياسية وترخيص الأحزاب، وهي إحدى أبجديات الليبرالية الحقيقية، ومع ذلك نلاحظ أن الذي يسيطر على مفاصل أنظمتها من ساسة وتكنوقراط ومثقفين وأكاديميين هم ليبراليون معروفون بإيمانهم الصادق بالليبرالية، فهل عدم تطبيقهم لليبرالية الحقيقية ودخولهم في حكومات مستبدة سياسيا سينزع عنهم وصف الليبراليين؟ لا أظن أن الجواب بنعم.

باختصار، أنا أتفق مع الصديق عبد الرحمن الراشد أن من لم يؤمن ويطبق قيم الليبرالية من زعامات سياسية ورموز ثقافية فهو ليس ليبراليا، المشكلة أننا لو طبقنا هذا القيد فسيكون البحث عن «ليبرالي حقيقي» في عالمنا العربي أصعب من البحث عن إبرة في كومة قش.

[email protected]