لقاء خيالي مع الزعيم الغنوشي

TT

منذ أن أدلى زعيم حزب النهضة في تونس، راشد الغنوشي، بحديثه الشهير في واشنطن، في مركز من مراكزها البحثية، وهاجم فيه دول الخليج، وبالذات السعودية، مهددا عروش الخليج برياح الربيع العربي، وهو يحاول ترميم ما هدمه، وتعطير ما أفسده الدهر!

خلاصة دفاعات الغنوشي، النهضوي راشد، وليس البورقيبي محمد! هي أن المركز الذي حاضر فيه قد خان الأمانة وأفشى السر، ثم، كالعادة، الحجة العربية الشهيرة في النفي: تم تحريف الكلام واقتطاعه من سياقه.

تلقى راشد الغنوشي اللوم من قبل أصدقائه في الخليج على تسرعه وتهوره، وأنه بحاجة (هو ونهضويوه) إلى «مال» الخليج وثقته، وأن بوابة الخليج هي السعودية، لذلك سارع إلى شن حملة علاقات عامة، على الأقل في هذه الصحيفة، لتبديد الآثار السيئة والعارية لتصريحاته تلك.

دعونا نرَ ما قال في حواره الأخير، يوم الجمعة الماضي على صفحات هذه الجريدة، في حوار غزير، صال فيه وجال، ثم كان من ضمن ما قاله عن حديثه في واشنطن: «زرت الولايات المتحدة تلبية لدعوة من مجلة (فورن بوليسي) الأميركية ضمن دعوة لـ100 شخصية اعتبرت المجلة أنهم من أكثر المؤثرين في العالم هذا العام. وعلى هامش هذه الدعوة أجريت أحاديث مع عدة مراكز فكرية، وهي منتشرة كثيرا في واشنطن، التي تسمى بـ(ثنك تانكس)، وكانت ذات توجهات مختلفة يمينية ويسارية ومعتدلة ومتطرفة ومحافظة، ومن عادتها أن المحاورات التي تجري فيها لا تكون للنشر ولا تُسجل؛ إذ الهدف منها إتاحة فرصة للحوار بين النخبة وأهل الاختصاص في المركز، والتزمت كل المراكز الفكرية التي تحاورنا معها بهذا الشرط ما عدا مركز واشنطن الذي لم يكتف بالنشر، وهو ما نتج عنه احتجاج منا واعتذار منهم».

ثم قال بخصوص موقفه من كيفية تحقيق الربيع العربي في بلاد الخليج: «نتمنى أن يتخذ ذلك أيسر السبل وأقل التكاليف، بعيدا عن الهزات الاجتماعية التي لا تؤمن عواقبها، وذلك من خلال ما نتمناه من مبادرات إصلاحية يتولاها الحكام بأنفسهم استجابة لمطالب شعوبهم».

حول كلامه عن حادثة واشنطن، من الواضح تكرار موقفه وحنقه من حكاية النشر بحد ذاتها، وليس مما قيل نفسه! أو على الأقل التركيز على تقديم الشرح والغضب حول المضمون، وليس حول جزئية النشر والجهر!

سنصدقه فيما قال، ونكذب المركز «الصهيوني» في واشنطن، على الأقل مؤقتا. نأتي للحكاية الثانية حول النصح الناعم للإصلاح اليسير والسهل من دون «هزات اجتماعية»، من خلال مبادرات يتخذها الحكام بأنفسهم، يقصد في بلدان الخليج.

كلام عاقل، عاقل جدا، ومجرد تماما من الحرارة الثورية، حسنا، لماذا فقط بلدان الخليج، بما فيها قطر طبعا، يتمنى لها الغنوشي السبيل اليسير والسهل وعلى أيدي الحكام في الإصلاح؟ لماذا لم يقل هذا الكلام عن تونس نفسها، أو مصر، أو اليمن وسوريا؟!

الغرض من هذه الأسئلة هو أن الغنوشي، وكل من دار في فلك التسيس الإخواني والإسلامي، يقولون كلاما صالحا لكل مقام، ويصعدون في اللهجة ويخفضون حسب المصالح، وكله باسم العقلانية والدين وخاطر الأمة.

الثوري إما أن يكون ثوريا على طول الطريق، من دون مهادنات، من أجل خاطر الخليج، وإما أن يكون عقلانيا وحريصا على عدم حدوث الهزات الاجتماعية، في الخليج وغير الخليج.

حسنا لندع هذا كله، كان بودي لو سألت الأستاذ راشد الغنوشي، السياسي العاقل الهادئ الصديق للخليج، المحب للسياسة العقلانية الكاره «للهزات الاجتماعية» بعض الأسئلة، ليزيل حيرتنا تماما، ويمحو هواجسنا. مثلا:

* تعرف الجدل الذي ثار بعد تصريحاتكم الأخيرة في واشنطن، حتى بعد ردك عليها، إلا أن البعض لم ير ذلك ردا قاطعا، حيث كان ردك منصبا على «التنديد» بنشر المركز الأميركي للكلام، على الرغم من تأكيده على سرية الجلسة، ثم أنك هاجمت أجندة هذا المركز وغيره باعتباره ينفذ الهوى الصهيوني، والسؤال: لماذا رضيت أن تلقي محاضرتك هناك على الرغم من صهيونية المركز؟

* بالإشارة إلى هذه المحاضرة التي ذكرت، والعهدة على ناقلي الأخبار، فإنك هددت فيها السعودية ودول الخليج باهتزاز العروش ووصول الرياح الثورية إليها، وقيل أيضا، كما ذكرت جريدة «السفير» اللبنانية في 3 ديسمبر (كانون الأول)، إنك عند سؤالك عن تسمية أميركا بأنها «الشيطان الأكبر» وعن دعمك غزو الرئيس العراقي الراحل صدام حسين للكويت، نفيت أنك قد دعمت العنف منذ إعلان «النهضة» كحركة سياسية عام 1981. واعتبرت أن حل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي يعود إلى الطرفين، وأضفت: «أنا مهتم بتونس. لدي نموذج وتجربة أريدها أن تنجح، فيما الآخرون مهتمون بفلسطين وليبيا. الكل مهتم بمصلحته الخاصة، ومصلحتي هي تونس».

السؤال هو: الكل يتذكر تفاصيل المواقف في حرب تحرير الكويت 1991، كيف تصف موقفك من غزو صدام للكويت في ذلك الوقت؟ وكيف تصفه الآن؟

مواقف الغنوشي ورفاقه في حرب تحرير الكويت معروفة، نذكّر فقط بما تحدث عنه أحد قادة حزب النهضة التونسيين، ومسؤولهم السابق في فرنسا، فؤاد منصور قاسم، الذي فصل في لقاء صحافي معه ذكرياته مع حزب النهضة، وكيف أن الغنوشي ساند صدام في البداية ثم عاد وساند الكويت، ثم لما ذهب للسودان عاد وساند صدام حسين!

* كيف يصف الغنوشي النموذج الإيراني بالقياس إلى النموذج التركي في حالة الإسلام السياسي، خصوصا أنه قال في تصريحات أخيرة إن الإسلاميين الأتراك هم من استفاد من تجربته وتجربة تياره؟ وكرر أيضا في حواره الأخير مع الجريدة أن كتبه تقرأ في تركيا أكثر مما في تونس.

* كان الغنوشي من أشد المعجبين بثورة الخميني في إيران، وكرر الثناء عليه في كتابه «الحريات العامة في الدولة الإسلامية»، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية سنة 1993، فقد ذكر في مقدمته أن الخميني من آبائه الروحيين، بالإضافة طبعا «للشهيد»، حسب وصفه، حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان، و(المودودي و«الشهيد» سيد قطب وأستاذه مالك بن نبي..).

الآن هل ما زال الغنوشي يعتبر ثورة الخميني مصدر إلهام له، وبالمناسبة، ما رأيه في سياسات أحمدي نجاد وفي الثورة الخضراء ضده وضد مرشده خامنئي؟

* أخذ كثيرون على حركات الإسلام السياسي، وعلى رأسها «الإخوان»، التحالف الوثيق مع الجمهورية الإيرانية، للدرجة التي أدخلت «الإخوان» في صراعات استقطاب سياسي وطائفي مع كثير من الجماهير العربية السنية، خصوصا في دول الخليج، كيف يرى الغنوشي مستقبل «الإخوان» والإسلاميين السنة مع دولة إيران بعد أن وصلوا للسلطة؟

وهناك بالطبع أسئلة أخرى عن كلام رئيس حكومته، حمادي الجبالي، عن «الخلافة الإسلامية»، وهو بالمناسبة كلام و«حلم» سبق أن حلم به الرمز الإسلامي السياسي في اليمن، عبد المجيد الزنداني، قبل عدة أشهر، وهو يصف مآل الثورات «الأصولية» في الشوارع العربية.

وسؤال آخر: كيف يسوغ تولية صهره لوزارة الخارجية، على الرغم من أن مما كان يدان به بن علي ومبارك وصالح تولية أقاربهم في المناصب المهمة؟!

أعرف أن الأسئلة السابقة حادة وقاسية، ولكن يجب على الإسلاميين، خصوصا رموزهم، تذوق علقم السلطة، كما تذوقوا حلاوتها الآن، ومن علقهما أن تكون أنت ومواقفك ومبادئك تحت الفحص الشديد.

الشعارات الآن سريعة العطب والانتهاء تحت أشعة الواقع الساخن.

[email protected]