ليلة القبض على نائب الرئيس

TT

اعتقد الأميركيون - ربما في الظاهر على الأقل - أن باستطاعتهم بناء دولة ديمقراطية في العراق، هم لم يفلحوا ولم يستسلموا أيضا، كثيرون من الساسة والأكاديميين ومن يمر منهم بالمنطقة ما زالوا يأملون أن تبنى «ديمقراطية توافقية» في العراق. لمثلهم يحلو لي أن أروي القصة التالية لمحاولة أخرى في الشرق الأوسط رواها المرحوم أحمد حسن الزيات ‏(دبلوماسي مصري‏)، عايش استقلال الصومال‏، حكى لنا القصة التالية ذات المغزى العميق. قال إنه أراد أن يستكمل الشكل الحديث للدولة الجديدة، عشية استقلال الصومال، فطلب من الأحزاب الصومالية أن تسجل نفسها بشكل رسمي‏، فجاءته مجموعة صومالية،‏‏ وقالت: نحن حزب دحلة ومرنيلة، سأل الزيات (رحمه الله): وماذا يعني اسم هذا الحزب؟ قالوا إنه ممثل قبيلتين صوماليتين صغيرتين، اسمهما دحلة ومرنيلة. رفض الزيات تسجيل الحزب الجديد، فالأحزاب تختلف عن القبائل‏، قال لهم ذلك‏، عاد إليه نفس الأشخاص بعد أيام من الاستمهال، وقالوا: لقد أسسنا حزبا جديدا‏، ولما سأل عن اسمه، قالوا إنه الآن يدعى الحزب الديمقراطي المستقل، سأل الزيات من جديد‏: وهل هناك حزب اسمه الحزب الديمقراطي‏، حتى تميزوا أنفسكم بـ«المستقل»؟ قالوا لا، ولكن حزب دحلة ومرنيلة يحتاج إلى الحروف الثلاثة (ح، د، م) ليستقيم‏!

وأنا أستمع إلى الندوة الصحافية التي تحدث فيها السيد نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي، حول الخلافات السياسية الحادة بينه وبين نائب رئيس الجمهورية، طارق الهاشمي، تذكرت المفارقة الصومالية، فحزب السيد نوري المالكي اسمه أيضا «حزب دولة القانون»، في تلك الندوة قال أمام الملأ إنه اجتمع بالقضاة العراقيين وقالوا له إن لم يقم بإصدار مذكرة توقيف، فإنهم سوف يقومون بذلك! رئيس الوزراء يجتمع بالقضاة ويتفاوض وإياهم على إصدار مذكرة توقيف في حق نائب رئيس الجمهورية؟! كيف؟!

إلا أن ذلك استدعى في خاطري قاضيا عراقيا آخر، كان من قبيل الصدفة القاضي الذي حاكم صدام حسين، مر الرجل بالكويت منذ أشهر وأقام بها بضعة أسابيع، والكويت مجتمع مفتوح، طاف الرجل بديوانياتها وتنقل بينها وتحدث طويلا، ما سمعته وسمعه غيري حول ظروف المحاكمات أصابنا بالعجب، إن لم يكن بالهلع، لقد كان الرجل - بكلمات دبلوماسية أحاول أن أنتقيها - (خفيفا للغاية) كاد يكون موضوع تندر للسامعين! لا أستطيع أن أجزم أن القضاء العراقي بهذه الخفة، كما لا أستطيع أن أنفي أو أؤكد أن القضاء هناك مستقل يعمل بطريقة بعيدة عن التسييس، ذلك يقوله سلبا أو إيجابا من هو على اطلاع على ما خفي في دهاليز بغداد السياسية اليوم.

كل ما أستطيع الجزم به أن هناك «شبهات» حول استقلالية السلطات، خاصة القضائية، بدليل الندوة الصحافية التي تكلم فيها السيد المالكي، واعترافه بالتداول مع القضاة، من هنا تأتي شكوك طارق الهاشمي ومؤيديه لنقل المحاكمة - إن تمت - إلى كردستان العراق! كما أن هناك شبهات في اختيار التوقيت لها ظل ثقيل حول الأهداف المرجوة منها.

لا يحتاج إلى دليل القول بأن العراق يغوص في بحر عميق من الشقاق السياسي، أساسه للمتابع شره الاستحواذ على السلطة والثروة في آن، وهو فعل يتكرر في تاريخ العراق منذ بداية القرن العشرين، ويتوجه غالبا لبناء ديكتاتورية.

الشكل الظاهري في العراق اليوم هو الشقاق الطائفي، ولكن من يعرف شيئا عن نخبة العراق، يعرف أنه شقاق طائفي مسيس، أي أن الطائفية في العراق تأخذ شكل «الطائفية السياسية»، وهي لا تزدهر إلا بوجود عاملين؛ الجهل السياسي من جهة، وهو متوفر لدى شرائح كثيرة، والشره المالي، وهو أيضا ليس بقليل. ولا أبرئ أيضا التدخل النشط من الجارة إيران في إذكاء ذلك الشقاق.

تاريخيا أعيب على زعماء شيعة العراق (بتعميم مخل) وقوفهم ضد البريطانيين، عند غزو العراق بعد الحرب العالمية الأولى، ويجمع كتاب التاريخ أن ذلك الموقف حرمهم لاحقا من الولوج إلى سدة السلطة، شخصيا لا أسهم في تأكيد تلك القراءة، ولكن الأهم أن بعضهم اليوم يعيب على السنة أنهم وقفوا ضد الاحتلال الأميركي فخسروا الولوج إلى سدة السلطة. إنه تكييف فيه «شيء كثير من الانتهازية السياسية»، لأن أي عاقل فطن يعرف على وجه الدقة أن ما بقي من العراق (بخروج مناطق كردستان الفعلية من النقاش) بالضرورة لن يسير إلى أي مكان دون جناحيه الشيعي والسني، وكلما بكر الجميع في تحييد «المذهبية السياسية» عن العمل السياسي، وحصر الاختلاف في الاجتهاد السياسي، حقنت دماء العراقيين أكثر. فليلة القبض على نائب الرئيس العراقي سوف تفتح صندوق باندورا الذي تخرج منه أشكال من الأفاعي السياسية، تعصف بما بقي في العراق من استقرار، في الوقت الذي يسير فيه الشمال بشكل منظم في إطار تنموي ملحوظ.

كل ذلك معطوف على وهم ما زال عالقا في ذهن البعض في الجنوب، أن العراق لا يُحكم إلا بالقوة الفظة، ذلك وهم يجدر التخلص منه، خاصة في ضوء الاحتمالات الكبرى التي تقود اليوم إلى احترام التعددية من جهة، ونتائج صناديق الاقتراع من جهة أخرى، ووضع في كردستان يُسير العمل السياسي باتجاه استقلال ذاتي بسلاسة.

آخر الكلام:

قليلة فوائد ربيع العرب، إلا أن إحدى إيجابياتها، تعرف الجمهور العربي عن كثب على الكثير من المدن الليبية المتوسطة والصغيرة إبان مرحلة تحرير ليبيا، واليوم يزاد التعرف بالمدن السورية الصغيرة والمتوسطة بسبب ما يجري هناك. إنه درس في الجغرافيا، بجانب كونه درسا في السياسة.