الدولة العميقة والمسار الديمقراطي

TT

أصبح من غير المعقول النظر إلى الوضع الذي آلت إليه البلاد بعد 11 فبراير (شباط) 2011 والتزام السكوت ووضع الرؤوس في الرمال أو العمل بآلية رد الفعل وصد الأزمة، والدوران في الفلك المخطط له.

فالأمور كلها منذ الخروج النهائي من ميدان التحرير - والتي لم تمنع العودة الرمزية إليه - تدفع وبقوة إلى ضرورة التصديق بأن انقلابا حقيقيا حدث على الثورة وعلى الشعب المصري بأكمله، وهذا في الحقيقة مرده إلى الفواعل والأفعال السياسية.

فالفواعل السياسية في المرحلة الانتقالية تلعب دورا جوهريا بامتياز في عرقلة المسيرة نحو الديمقراطية الحقيقية، وهنا يمكن الحديث أولا عن الدور المحوري للدولة العميقة في مصر، ويشير هذا المصطلح ببساطة إلى شبكة من الأفراد والمنظمات المترابطة مع بعضها البعض بتحالفات تقوم على وجود مصالح متداخلة ومتعانقة ببعضها البعض، وهذه الشبكة تمتد بشكل أفقي ورأسي في كل مؤسسات الدولة والتي تحوي داخلها مؤسسات ثقافية وعسكرية وأمنية و.. إلخ، الأمر الذي يعمل على حماية مصالح أفراد الشبكة ككل، هذه الشبكة تعمل في تناغم وثقة طالما أنه لم تمتد إليها يد التطهير الحقيقي الجذري والعميق. كذلك تؤثر هذه المنظومة المتكاملة على طريقة تفكير وعمل كل من يعمل أو يتعاون معها بشكل لصيق، وبالتالي يصبح جزءا من الآلة رغم أنه لم يكن سابقا بشكل كامل أو شبه كامل جزءا منها. وبالتالي يكون من البديهي للغاية أن نرى الأفعال مكملة لسياسة نظام سقط رأسه وبقي جسده قابعا بكل قوة وعنفوان أمام معاول الهدم الهزيلة والتي تآكلت قوتها يوما بعد يوم بسبب عدم تكاتف أصحابها. وبالتالي كان من البديهي للغاية أن يكون لدينا حكومة «تأزيم» وليس «تسيير» لأنها تعمل في كنف الآلة نفسها، مما سبّب أداءها أزمات متتالية يمكن حسابها بواقع أزمة «عاصفة» كل عشرة أيام، كان من البديهي أن يتحول الإعلام الحكومي من تأليه رأس النظام السابق إلى تأليه رأس النظام الجديد ومؤسساته وجعلهم «خطا أحمر».

أما الإعلام الخاص فحدث ولا حرج على انعدام المهنية وزيادة بث الفرقة بين نسيج المجتمع. كان من البديهي أن يتم إنذار ومداهمة، بل وإغلاق الفضائيات التي كشفت عن زوايا من وجه النظام (على الرغم من أن مثل هذا الفعل لم يقدم عليه النظام السابق رغم جبروته)، كان من البديهي أن تستمر إدارة ملف المسلمين والمسيحيين في مصر كما أدير في السابق باعتباره ملفا أمنيا مستعصيا على الحل يديره أمن الدولة بأعوانه من داخل الكنيسة ومن المسلمين مع استبعاد أي جهود مجتمعية حقيقية لإنهائه كما حدث في عرقلة أعمال لجنة العدالة الوطنية وعدم تشكيلها بشكل قانوني حتى كتابة هذا المقال، بالرغم من أن تجربة الـ18 يوما كشفت عن أنه لا يوجد صحة لما تم الترويج إليه من طائفية قاتلة بين مسلمي ومسيحيي مصر.

وكان من البديهي أيضا إعداد قائمة بالنشطاء السياسيين - هذه القائمة التي لم يستطع مستشارو مبارك إعدادها لمعرفة من يحرك الثورة - ومحاكمتهم عسكريا، فمنهم من أفرج عنهم ومنهم من ينتظر «العفو أو نحبه» في السجون العسكرية، وعلى الرغم من ارتكاب بعضهم لأخطاء يحاسب عليها القانون لكن ليس من الطبيعي أن تتم محاكمتهم عسكريا في الوقت الذي يتم فيه محاكمة من أفسدوا البلاد وعذبوا وقتلوا العباد مدنيا وعلى أسرّة الرحمة! ومن البديهي أن يظهر أمن الدولة، أقصد «الأمن الوطني» وبطش الداخلية وتعذيب المواطنين وقتلهم ودهسهم «خطأ». من البديهي أن تنسب كل جرائم الطائفية والدهس والقتل والاختطاف إلى أشباح في كثير من الأوقات، وإلى جهات خارجية لا يعلن عن اسمها، من البديهي أن تظهر المبادئ فوق الدستورية بأسماء مختلفة لتصفع الجميع وتلهيهم عن الاستمرار في المسير نحو الديمقراطية، وهذا بالقطع دليل على مدى فشل من يدير البلاد في تسيير المرحلة الانتقالية بالشكل الذي رسمه الشعب بنفسه!

ويزيد الأمر سوءا أداء باقي الفواعل، فالنخبة - «مثقفة» كانت أو سياسية - تعاني من نفس أمراض النظام السابق لأنها ببساطة لا تستطيع العيش إلا في حالة من الاستقطاب الشديد. وبالتالي فبدلا من قيام المثقفين بالبعد عن السياسة والعمل من أجل تصحيح المسارات لكل القوى السياسية على اختلاف أطيافها، وجدنا أن هذه النخبة آثرت الانخراط في السياسة إما من خلال إنشاء أحزاب شكلية وإما العضوية في أحزاب جديدة أو قديمة، وإما الترشح لانتخابات رئاسية لا يعلم تاريخها إلا الله، تاركين أماكنهم التنويرية التي عملوا من خلالها على إيقاظ العقول والقلوب وإضاءة الطريق فخسروا أكثر مما جنوا، وتركوا فراغا حقيقيا. وكان لدخولهم في هذه اللعبة تأثير بشكل أو بآخر على حيادية التحليلات التي يتم تقديمها والتي تناقضت في كثير من الأحيان مع المعاني المستقرة للديمقراطية. لقد كنا نقول إن للنظام السابق مثقفيه وكتابه، واليوم للأسف نرى أنه أيضا للمرحلة الانتقالية وإفشال المسار الديمقراطي مثقفوها وكتابها! ولم يبق منهم سوى القليل الذي آثر اعتزال برامج «الحكي» الليلية والتواصل فقط من خلال مقالاته في الجرائد اليومية والتي لا تصل إلى عموم الناس.

وتلعب القوى السياسية باختلاف أطيافها دور المعرقل باقتدار للمسار الثوري، وذلك من خلال دخولها في صراعات وهمية تشير إلى إفلاس هذه القوى عن تقديم طروحات حقيقية للمشاكل والأزمات الحقيقية لهذا الوطن، وهي المشاكل الاقتصادية وكيفية إخراج البلاد من نفق الفقر والجهل والمرض المظلم، فلم نشهد طيلة الأشهر السابقة تنافسا أو حتى جدلا حول خطط هذه القوى لتحقيق النمو الاقتصادي وتقليل معدلات البطالة والفقر، حتى وإن كان لبعضها رؤية فلم يتم مناقشته في خططه وما إذا كانت موائمة للسياق الداخلي، بل تم انحراف المسار إلى صراعات حول مواضيع لا طائل من ورائها سوى زرع الفرقة والتمزق والتشويش في الشارع المصري.

أما النشطاء السياسيون، فقد تخلوا عن دورهم المحوري الذي هو حماية الثورة من الانزلاق في منعطفات التيه والتشرذم، إلى بحثهم عن دور سياسي في المرحلة باعتبارهم من «قام بالثورة»، وبالتالي فهم الأولى بقطف ثمارها، وبالتالي تخليهم عن «الطهر الثوري» والانزلاق وراء الرغبة في الحصول على مغنم وهمي، وقد يكون المبرر هو إثراء البرلمان القادم بوجودهم فيه، ولكن كان من الأجدى النظر بأفق أوسع للمرحلة الانتقالية والعمل على تحقيق التماسك المتين بينهم لخلق قوى حقيقية لمراقبة أعمال البرلمان والضغط عليه في حالة انحرافه عن مسار المطالب الثورية. وقد يستثنى من ذلك بعض الحركات الاحتجاجية التي لا تزال تعمل على الطريق الحارس للثورة ومطالبها ولكن قلة أعدادها تؤدي إلى ضعف تأثيرها على المشهد السياسي المعقد والمربك، وخاصة بعد تشويه صورتها لدى المواطن العادي في سلسلة منظمة من الاتهامات والإشاعات التي تم تسريبها بحرفية شديدة أدت بشكل عام إلى فصل الشعب عن الثورة من ناحية، وعن الثوار من ناحية ثانية، ووضع كل النشطاء في سلة التخوين والعمل لجهات أجنبية.

هنا لا بد من الحديث عن ضرورة ظهور نخب شبابية جديدة تعمل بروح «التحرير» القائمة على العمل في صمت - بعيدا عن أضواء الشهرة والإعلام والاجتماعات الداخلية والخارجية - متصلة بملح الأرض (الجماهير)، واعية بخطورة المرحلة وأدوار الفواعل التقليدية والمستحدثة فيها، لكي تكمل مطالب الثورة دون حسابات شخصية أو سياسية.

في الحقيقة، إن الوضع الذي وصلت إليه مصر بعد انتهاء المرحلة الأولى من الثورة، وهي إسقاط رأس النظام، يتطلب وقفة حقيقية من الجميع لإعادة النظر والعمل معا لإنهاء الحكم السلطوي لمصر الذي دام أكثر من 60 عاما، فالأمر يتطلب وقفة وخطة متكاملة الأركان تشمل الوضع الحالي والوضع المستقبلي.. فإزالة رأس السلطة ليس هو الحل فقط، بل يجب إزالة ما هو متعلق بهذه السلطة، والذي يعد أكثر عمقا وأكثر خطرا من الرأس.

* مديرة مكتب البرامج الثقافية في مؤسسة «مدى» للتنمية الإعلامية في مصر