ثورة سوريا ومحيطها الإقليمي

TT

لا يمثل المحيط الإقليمي لسوريا سوى امتداد للوضع القائم فيها اليوم. إذ هو بالمختصر الشديد منقسم ومتناقض كما هو الوضع في سوريا، منقسم ومتناقض بين النظام والحراك الشعبي، وهو وضع قائم منذ انطلاق حركة الاحتجاج والتظاهر في أواسط مارس (آذار) الماضي، وهو سوف يستمر؛ سواء انتصرت الثورة في سوريا، وأسقطت النظام الحاكم، أو استطاع النظام إخضاع الثورة وإعادة إحكام قبضته على البلاد، وهو احتمال يبدو خارج أغلب التقديرات.

والحديث عن المحيط الإقليمي لا يعني بالضرورة المحيط المجاور لسوريا بكياناته الخمسة، بل هو أبعد من ذلك إلى الكيانات الإقليمية، التي تتأثر وتؤثر في الواقع السوري، وفي هذا تندرج تركيا والعراق وإيران ودول الخليج العربية إضافة إلى مصر ولبنان وفلسطين وإسرائيل، وكلها أطراف سوف تتأثر بما سيؤول إليه الوضع السوري من نتائج، وهي في المرحلة الراهنة ذات تأثيرات مباشرة وغير مباشرة فيه.

وأساس الانقسام الإقليمي حيال الوضع السوري يستند إلى عوامل آيديولوجية وأخرى سياسية، وهذا ينطبق على الدول والجماعات السياسية والتنظيمات الأهلية والاجتماعية، كما ينطبق على مواقف شخصيات وفعاليات سياسية واقتصادية واجتماعية ذات تأثير في المنطقة، وفيها جميعا من يستند في موقفه السوري إلى بعد آيديولوجي وربما سياسي، بل إن البعض يجمع في خلفية موقفه السوري كلا من الآيديولوجي والسياسي في آن معا، على نحو ما تفعل الأغلبية الفلسطينية، حيث ترى في سوريا حاضنة آيديولوجية وسياسية للقضية الفلسطينية.

إن أبرز نماذج الانقسام الإقليمي في الموضوع السوري يمثله الاصطفاف الإيراني مع حزب الله اللبناني، وقد انضم العراق إلى هذا الاصطفاف مؤخرا وقوفا إلى جانب نظام دمشق بصورة حاسمة، وأساس الموقف سياسي فيه خليط من الآيديولوجيا الدينية والطائفية، يعود إلى توافقات الموقف السياسي بين الإيرانيين وحزب الله مع نظام دمشق، وخاصة فيما يتعلق بموضوع الصراع العربي - الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، لكن الاختلاط الآيديولوجي مع السياسي صار أكثر وضوحا بعد انضمام العراق إلى هذه الكتلة، وقد عارضت سلطته في أوقات سابقة سياسات دمشق ومواقفها؛ ليس في مواضيع الداخل العراقي، بل فيما يتصل بالعراق من مواقف إقليمية ودولية، غير أن ضغوطات إيران على القيادات العراقية، دفعت الأخيرة إلى خيارات جديدة في موقفها السوري.

والنموذج الثاني في الانقسام الإقليمي حيال الوضع السوري، يتمثل في موقف تركيا، جارة سوريا في الشمال، التي تقاربت مع موقف الأكثرية العربية، ولا سيما الدول الخليجية، وكان جوهر الموقف حض النظام السوري على المضي في معالجة سياسية للأزمة الراهنة ووقف المعالجات الأمنية/ العسكرية بما تتركه من آثار مأساوية على الشعب السوري. وعلى الرغم من أن أساس الموقف سياسي بما لهذه المجموعة من مواقف ومصالح مشتركة مع سوريا والنظام الحاكم فيها كانت تكرست في أوقات سابقة، فإن إشارات ذات أبعاد آيديولوجية اختلطت فيها الآيديولوجيا الدينية/ الطائفية والقومية في مواقف الأتراك والعرب مع الموقف السياسي، مما أعطى لهذا النموذج طابعه في معارضة سياسات النظام السوري والاقتراب أكثر إلى جانب الثورة السورية.

إضافة إلى النموذجين السابقين، ثمة نموذج ثالث متفرد في أساسه، وإن كان لا يبدو متفردا من حيث النتيجة، وهو الموقف الإسرائيلي الذي أحاطه القلق في بداية الأحداث. وأساس القلق أن أي تبدلات في طبيعة وتوجهات النظام السوري، يمكن أن تقود إلى انقلاب في الأوضاع العسكرية والسياسية المستقرة على جبهة الجولان بين إسرائيل وسوريا، ويؤدي إلى عدم استقرار في الوضع الإقليمي كله، غير أن التطورات التالية أثبتت عجز النظام عن حسم صراعه مع الحراك الشعبي من خلال الخيارات الأمنية/ العسكرية، مما جعل الإسرائيليين أقل حرصا على استمرار نظام ضعيف، لا يملك قوة حسم صراع داخلي، غير أن هذا الموقف لم يكن ليترك أثرا في الموقف من مطالب السوريين في الحرية والكرامة وصولا إلى تغيير النظام، وهي أهداف تعارضها إسرائيل بصورة حاسمة في تأثيرها الداخلي، لأن تحقيقها يمكن أن يوفر أساسا أفضل لدور العرب والسوريين، خاصة في الصراع مع إسرائيل، وتغيير أسس ومستويات الصراع العربي - الإسرائيلي.

وسط النماذج الثلاثة في الموقف من الوضع السوري، ترتسم كل المواقف التفصيلية، التي تتخذها دول وجماعات وفعاليات في المنطقة؛ ففي بلد مثل لبنان تظهر مواقف شديدة التعقيد والتشابك. ذلك أن موقف الدولة اللبنانية أقرب إلى حياد يصب في خانة خدمة النظام الحاكم في دمشق، وهو أمر يتناسب وحساسيات الانقسام اللبناني، ليس داخل الفئة الحاكمة فقط، وإنما بسبب الانقسام الحاد بين الحكم الذي يديره حزب الله وأنصاره من «8 آذار» واقفين إلى جانب النظام والمعارضة التي يتزعمها تيار المستقبل ومعه أنصاره من «14 آذار»، وهم الأقرب إلى حركة التظاهر والاحتجاج وثورة السوريين من أجل الحرية والكرامة، ويمد هذا الوضع حضوره إلى أوساط النخبة اللبنانية، ومنها الذين لا ينخرطون في أطر الموالاة والمعارضة في لبنان.

إن انقسام المحيط الإقليمي في موقفه حيال الوضع السوري له امتدادات دولية، وهو كما امتداداته بين عوامل تؤخر حسم الصراع هناك، غير أنه لا يمكن القول إن هذا الاستمرار سوف يتواصل في ضوء ما تشهده سوريا من تطورات، وثمة معطيات كثيرة، تؤشر إلى تبدلات في توازنات المحيط الإقليمي للثورة في سوريا.