من التعاون إلى الوحدة

TT

مضى وقت طويل منذ أن جرى الحديث عن الوحدة في العالم العربي؛ وعلى العكس كان القول خلال العقود الأخيرة يدور حول منع الانقسام والتقسيم وتفكيك الدول العربية القائمة. وبالفعل انقسم السودان إلى دولتين، بينما كان تفتيت العراق أشبه بحقيقة لا يمكن تجنبها، ومن قبله كادت لبنان تواجه المصير نفسه، وما زلت أذكر كلمات غسان تويني في مؤسسة بروكينغز الأميركية وهو يحاضر: هل لا يزال لبنان باقيا كدولة؟ لم تكن هذه المخاوف ترتكن إلى أحاديث حول اتفاقيات سايكس بيكو، أو المؤامرة العالمية لتفكيك الأمة العربية، لكنها كانت تدور حول واقع انقسامي يستند إلى حروب أهلية، وانقسامات طائفية وعرقية لا يعرف أحد لتجاوزها حلا. صحيح أن العقيد القذافي كان يملأ الدنيا صخبا بكلمات الوحدة، ثم بعد أن اكتشف بُعدها بُعد السماء السابعة على الأقل تحت قيادته غير الرشيدة، انقلب حاله إلى الوحدة الأفريقية التي كان أهم مآثرها أنها أمدته بميليشيات عسكرية قتل بها الشعب الليبي.

مضى زمن الوحدة إذن، ولم يبقَ منه إلا الجامعة العربية التي على وهنها بقيت رابطة من نوع ما بين المتحدثين بالعربية؛ وبقي مجلس التعاون الخليجي بين الدول العربية التي تماثلت في الأصول والتقاليد والنظم السياسية. وعلى الرغم من أنه لم يسجل اختراقات كبرى فإنه كان أول مؤسسة عربية منتظمة؛ وسجل قدرة على التعامل مع تحديات جمة كان منها احتلال العراق للكويت، وكان آخرها التصدي للتمرد في البحرين.

كان حديث خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز عن ضرورة انتقال العلاقات بين دول الخليج الست من التعاون إلى الوحدة نقلة كيفية في الهدف النهائي للعلاقات بينها. وجاءت هذه النقلة بعد مقترحات راحت وجاءت دون ترجمات فعلية على أرض الواقع. في وقت من الأوقات كان انضمام اليمن إلى مجلس التعاون واردا لأسباب وقتية وأمنية ما لبثت أن ردعها الفارق الاقتصادي والقيادة غير المتجانسة مع من حولها. وفي وقت آخر جرى اقتراح ضم الأردن والمغرب، باعتبارهما دولتين ملكيتين إلى المجلس في تحالف للملكيات العربية المستقرة في إقليم مضطرب، لكن الاقتراح كما جاء راح، وبقي الأردنيون والمغاربة يتساءلون لماذا لم يتح لهم الدخول إلى نادي الأغنياء العرب؟

الآن يبدو الأمر مشابها لما جرى في التجربة الأوروبية؛ حيث كان هناك اتجاه نحو «توسيع» التكامل بضم أعضاء جدد حيث تمدد الستة الأوائل في «السوق المشتركة» إلى تسعة في «التجمع الأوروبي»، وظلت عملية التمدد حتى وصل العدد إلى 27 دولة، ولا تزال هناك قائمة طويلة واقفة في الانتظار نعرف منها تركيا ودول البلقان. لكن اتجاه التوسع لم يكن محبوبا من الجميع؛ فقد كان دائما مكلفا للدول الأكثر غنى؛ لذلك كان شعارهم «تعميق» العلاقة بين الدول المؤسسة أو تلك التي طال زمان وجودها في التجربة ومن ثم جرى الانتقال من التجارة الحرة إلى الاتحاد الجمركي إلى السوق المشتركة إلى اتفاقية الحريات الأربع إلى البنك المركزي والعملة الموحدة، وأخيرا الدستور الأوروبي. ولما كانت كل هذه الخطوات من الصعب على الجميع تحمل تبعاتها، فقد استقر الجمع الأوروبي، وفي المقدمة منه ألمانيا وفرنسا، على ما سمي السرعات المختلفة، أي تتحدد درجات تعميق الاتحاد، ويكون لكل درجة المعايير التي تقام عليها، ويدخلها من هو جاهز للتعامل معها. وهكذا كان هناك من دخل في اتفاقية «الشنغن» أو الفيزا الموحدة، أو اتفاقية «اليورو» أو العملة الموحدة. الآن فإن أوروبا، وفي مواجهة الأزمة الاقتصادية، تبحث عن الخطوة التالية بعد أن ألم بالاقتصاد الأوروبي مرض.

انتقال مجلس التعاون لدول الخليج العربية من «التعاون» إلى الاتحاد يمكن معرفة بواعثه الملحة، لكن من الصعب معرفة أدواته الانتقالية. البواعث كامنة في الحالة الثورية التي انتابت العالم العربي وولدت حالات من الفوضى والعنف والاتجاهات التي بعضها إلى الأفضل، وبعضها الآخر إلى الأسوأ، وبعضها الثالث ما زال يبحث عن طريقه بين هذا وذاك. وهي واضحة في أن الدول الإقليمية غير العربية تبحث عن طريق لتشكيل «الربيع العربي» - إذا صحت التسمية - حسب هواها؛ فإيران تريد الإمارة الثورية على باقي الثوار، وتركيا تريد استعادة الخلافة عن طريق «العثمانية الجديدة» من خلال ريادة طريق إسلامي معتدل يعادي إسرائيل بيمينه، ويعطي حلف الأطلنطي قواعد دفاعية بيساره. أما إسرائيل فهي قابعة تنتظر اتجاهات الريح، لكي تميز ما بين «الربيع» ورياح «الخماسين» الساخنة.

لكن الحقيقة هي أنه لم تكن هناك ندرة أبدا في بواعث الوحدة ومسبباتها، لكن الفقر كان شائعا في الآليات التي تنقل التعاون إلى مرحلة الوحدة، أو بقدر من التواضع إلى الاتحاد. مثل ذلك يعيدنا إلى لوحة التخطيط الاستراتيجي التي تقول لنا إن تجارب الوحدة الناجحة لا تأتي إلا من قوة الدول الأعضاء. الحكمة هنا أن الانتقال من التعاون إلى الوحدة لا يكون من التعامل مع ضعف الدول الأعضاء، وإنما لأن لديها من فائض القوة ما يحتاج إلى اتساع في المجال الاستراتيجي ومن ثم تكون تعميقا، وإذا احتاج الأمر، وتوافرت الضرورات، «التوسيع» أيضا. اللوحة أيضا تقضي بأن الوحدة، مثل الديمقراطية، طريقها صعب ومعقد، وهي لا تعطي نفسها إلا لمن كانت لديهم الشجاعة لحل مشكلاتهم أولا، ومن ثم فربما تكون الخطوة الأولى على طريق الوحدة أن يكون، كما يقال «صفر من المشاكل»، سواء أكانت حدودية أم تاريخية. مثل ذلك يحتاج إلى مجلس من الحكماء الذين يعملون في صمت للبحث عن حلول وسط، ويقدمون التعويض أرضا أو مالا أو فرصا سياسية أو استراتيجية لمن يرى غبنا عليه. والخطوة الأخيرة هي مشروع الإصلاح الأكبر، فما جرى في أوروبا خلال القرن التاسع عشر وبعد الثورتين الأميركية والفرنسية أن أوروبا جرى فيها زلزال مخيف، لكن الحكمة غلبت، ولم تتم هزيمة نابليون والثورة الفرنسية فقط، لكن صاحبتها أكبر ثورة إصلاحية في التاريخ انتشرت فيها الثورة الصناعية، وجرى التعليم في كل مكان، وامتدت المواصلات إلى كل الأرجاء، وانبثقت النقابات تدافع عن الطبقة العاملة، والأحزاب السياسية عن الطبقات الاجتماعية، وبدأ الإعلام يعرف طريقه إلى حرية التعبير.

وربما كان الأهم من ذلك كله أن الحكمة وجدت طريقها للتعامل مع مشكلة الأقليات في كل دولة ما بين البروتستانت والكاثوليك اللذين كان الصراع بينهما سببا في حروب الثلاثين عاما ومن قبلها المائة عام. ولم يمضِ وقت طويل حتى انتصر الإصلاح على الثورة، وعلى مدى قرن كامل - 1815 إلى 1914 - عرفت أوروبا سلاما طويلا. الوحدة طريق عظيم، ولكن أعدوا للأمر عدته!