ماذا تغير.. الإخوان أم المشهد؟

TT

أمام المكاسب الانتخابية التي حققها الاخوان المسلمون في انتخابات «الربيع العربي» انقسمت الآراء ما بين مرحب، ومتحير، ومتشائم. هذا الاختلاف ـ بالطبع- غير جديد، إذ لطالما كانت الجماعة تثير الريبة والشك لدى البعض، والاعجاب والاستلاب لدى البعض الآخر، ولكن السلوك السلبي الذي بات ينتشر لدى بعض النخب الثقافية والاعلامية في المنطقة هو لجوؤها إلى مسايرة الاخوان سياسياً، وفي بعض الحالات الدفاع عن الفكر المتشدد للجماعة، وتبرير تورطها التاريخي في ممارسة العنف، والتنظير له. لا شك أن اقتراب الإخوان من الجلوس على كرسي الحكم قد دفع بالبعض اما رهبة أو رغبة للتقرب من الجماعة، بل وتجاهل البعض مواقفهم وآراءهم السابقة في أم الحركات الإسلامية، والمشاركة بنسب متفاوتة في الترويج لخطابها السياسي.

قد تبدو كل هذه المواقف مفهومة -على الصعيد الشخصي للأفراد ـ في ضوء تغير المشهد السياسي، ولكن ما هو غير صحيح - أو مقبول- أن يدعي البعض أن الجماعة قد تغيرت بعد «الربيع العربي»، أو أننا نشهد تحولاً بنيوياً في أيديولوجيتها، بحيث يقود ذلك إلى تغيير حقيقي في خطابها وممارستها في الفضاءين السياسي والديني. هذا لا ينفي إمكانية تغير الجماعة في المستقبل، ولكن هذا أمر مرهون بانقلاب مفاهيمي وحزبي على مبادئ حسن البنا، والتنكر لأدبيات رجالها المؤسسين مثل سيد قطب.

فهل وصلت الجماعة إلى هذا الحد من الجدية في التغيير؟ لا شك أنه من المبكر أن نطلق حكماً على ما سيحدث في الشهور والسنوات القليلة القادمة، ولكن إذا جاز لنا أن نراجع تاريخ الجماعة في العقود الثمانية الأخيرة لأمكن القول إنها كانت على الدوام تقوم بالمناورات السياسية، وتبرع في التكتيكات المؤقتة، وتصدر دائما خطابين متناقضين: أحدهما للاستهلاك الداخلي في الجماعة، والآخر للجمهور الخارجي، وعند كل مفترق تاريخي كانت الجماعة تعود إلى مبادئها الراديكالية المتطرفة، سواء تعلق ذلك بخياراتها السياسية، أو من جهة استغلال الدين لتحقيق الانتشار في مجتمعات غير متعلمة، أو بالأصح لا تملك أي وعي مدني، وقيم ومبادئ ديمقراطية علمانية. هنا علينا أن ندرك أن الذين يتوقعون - أو يتمنون - أن تتطور الجماعة في خطابها وممارستها السياسية لتشبه تلك التي ميزت التجربة الإسلاموية التركية، لا يملكون على ذلك دليلاً أو حتى وقائع ملموسة تؤيد أو تدعم هذا التمني.

في رأيي أن الجماعة التي لم تنجح في تطوير خطابها طوال العقود الماضية -فقط راجع برنامج الاخوان الانتخابي في 2005 ومسودة برنامج الإصلاح السياسي التي صدرت في 2007 ـ، ومع ذلك فإنها بصدد الفوز بأغلبية كبيرة في انتخابات «الربيع العربي»، ولعل السؤال المهم هنا هو: لماذا يلجأ الاخوان لتغيير مبادئهم أو رؤيتهم للإصلاح السياسي اليوم إذا كان ناجحاً؟ قد يجيب البعض بأن المشهد قد تغير، وأن أحداث «الربيع العربي» ستضطرهم للتغيير لمسايرة المعطيات الجديدة التي تدفع باتجاه دولة مدنية ديمقراطية قائمة على مشروعية «شعبوية». حسناً، هنا تكمن المفارقة وهي أن الاخوان يظهرون صوتا متعاطفاً مع القوى «الشعبوية» و«الثورية» بانتظار الوصول، ولكنهم بعد ذلك لن يكونوا مضطرين لمسايرة أحد من متظاهري التحرير لأنهم على غرار نظام مبارك، يستندون إلى شرعية صندوق الانتخابات، ثم انهم بوسعهم في المستقبل القريب إعادة تعريف «الثورة» كما يريدون ليجعلوها «إسلامية»، وأن يرووا يوميات «التحرير» بوصفهم القوة التي ضمنت نجاحها على الأقل. شاهد الآن ما يقوم به أحمد منصور في قناة الجزيرة عبر برنامجه «شاهد على الثورة» لتدرك أن ذلك قد بدأ بالفعل، ثم تذكر فقط أن الجماعة لم تعلن رسميا موقفها من «الثورة» إلا بعد ثلاثة أيام على بدايتها في 25 يناير، وامتنعت بعد رحيل مبارك عن التحالف مع قوى الثورة، والانخراط في مظاهرات «التحرير» الأخيرة.

هناك - بالطبع - من يجادل أن حزب «الحرية والعدالة» التابع للجماعة قد تخلى في برنامجه الانتخابي 2011 عن شعارات الجماعة التاريخية «الإسلام هو الحل» ، و«الإسلام دين ودولة»، ويرون ذلك دليلاً على استعدادها للتراجع براغماتياً عن مواقفها التقليدية. حتى إذا اعتبرنا ذلك صحيحاً، فإن الحزب هو ذراع سياسية للجماعة - كما هو التنظيم الخاص والتنظيم الدولي -، وليس بالضرورة أن تكون الجماعة ملزمة باعتماد مقرراته، أو خطابه «الديمقراطي» الجديد، ولعل البعض يتذكر تصريحات مرشد الاخوان السابق محمد مهدي عاكف حينما سئل في اعقاب انتخابات 2005، هل انتم الاخوان تحترمون الديمقراطية التي اوصلتكم الى مجلس الشعب؟ فرد قائلا : «الديمقراطية بالنسبة الينا هي كالقبقاب ننتعله ونصل به الى الحمام فنرميه» (جريدة الدستور 24 فبراير 2011). في كتابه «مصر وسياسة التغيير في الشرق الأوسط العربي»، يشير روبرت باوكر (2010) إلى أن جماعة الاخوان المسلمين قد نجحت خلال العقود الماضية، لأنها كانت تلعب دور المعارضة السياسية الفاعلة عبر تمييز نفسها كخيار ديني، وأن هذا هو السبب الحقيقي في فشلها في تجديد خطابها والانتقال من راديكاليتها المحافظة إلى قوة سياسية أكثر مواءمة للحكم الديمقراطي. يضيف باوكر أن الاخوان منقسمون ما بين متشددين وآخرين أقل تشدداً حول قدر البراغماتية ـ أو إن شئت التكتيك السياسي ـ الذي ينبغي عليهم ممارسته لكي لا يفقدوا هويتهم الدينية، وأن صقور الاخوان يخشون: «المخاطر التي من شأنها أن تضعف هويتهم الدينية بالتركيز على التسويات السياسية».

على الرغم من كل ما سبق، يجادل البعض أن الاخوان قد باتوا على مشارف الحكم في مصر وعدد من البلدان العربية كتونس والمغرب، ولذا ينبغي كسبهم ـ معنوياً ومادياً ـ لئلا تفقد بعض الدول الخليجية والعربية تأثيرها وتواصلها مع تلك البلدان، أو لتتقي خطورة أن تتحول تلك الأنظمة السياسية الجديدة نحو تحالف راديكالي -على غرار المحور الايراني/السوري ـ في مواجهة الدول المعتدلة في سياساتها. في رأيي، أن الدول الخليجية والعربية قد جربت في السابق التحالف مع الاخوان، وقدمت لهم الملجأ السياسي والدعم المادي في أوقات اضطهادهم، أو بالأحرى مواجهاتهم السياسية والأمنية، ولكن النتائج في أغلبها قد أثبتت أن الاخوان حزب انقلابي (شوفيني) تتعدى طموحاته مجرد التوافق السياسي نحو بسط سلطته الحزبية والأيديولوجية على الدول المجاورة.

إذا أردت نقاشاً جاداً بخصوص ذلك راجع ما كتبه عبدالله بن بجاد العتيبي تحت عنوان «السعودية والإخوان.. شيء من التاريخ» («الشرق الأوسط» 17 ديسمبر 2011). قد يعتبر البعض هذا الطرح متشائماً تجاه كبرى الحركات الإسلامية، ولكن من الصعب، كما يشير العتيبي، أن نتجاهل التاريخ والذكريات المرة مع الاخوان، لمجرد وصولهم إلى كرسي الحكم.

الذين يراهنون على تغير الاخوان، يراهنون على المجهول، وحري بهم أن يدركوا أن تاريخ الجماعة في الماضي لم يورث إلا المآسي، ولكنه إن تكرر ثانية لن يعدو إلا أن يكون ملهاة.