السودان.. على أعتاب السنة الكبيسة

TT

عام 2011 بدأ في السودان بحديث كثير عن السلام، وبحدث غيَّر معالم البلد وتاريخه، وينتهي الآن على وقع أكثر من حرب، وعلى تطورات ستكون لها تداعياتها التي قد تحدث المزيد من التغيير في شكل الدولة السودانية وخريطتها السياسية. بداية العام شهدت انشطار البلد بعد تصويت الجنوب على الانفصال في استفتاء جرى وفقا لبنود اتفاقية السلام التي وقعها نظام البشير مع «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، وكان يفترض أن توفر المناخ الذي يجعل الوحدة جاذبة، لكنها بدلا من ذلك قادت إلى الانفصال، وأججت حروبا جديدة. ويدخل العام ساعاته الأخيرة، وهناك ثلاث حروب في الشمال تمتد على جبهة جنوبية جديدة بعرض البلاد من دارفور إلى جنوب كردفان والنيل الأزرق، وعلاقة متوترة مع دولة الجنوب الجديدة تتأرجح بين الحرب الباردة والانزلاق إلى المواجهة المفتوحة.

هذه الجبهات مرشحة لتسخين شديد خلال العام الجديد والشواهد على ذلك كثيرة؛ فالعلاقات بين الشمال ودولة الجنوب الجديدة تزداد توترا، خصوصا مع حرب عائدات النفط والحصار الاقتصادي المترتب عليها، مما جعل الجنوب يتحدث عن التفكير في بدائل لتصدير نفطه عبر أوغندا، على الرغم من التكلفة العالية لمثل هذا المشروع. والطرفان يتحاربان أيضا بالوكالة، في ظل التهديدات والاتهامات المتبادلة بدعم الخصوم وتشجيع المتمردين.

هناك أيضا الجبهة الثورية التي أعلن عن تشكيلها بين الحركة الشعبية لتحرير السودان - قطاع الشمال - وثلاث من الحركات المسلحة في دارفور، بهدف معلن هو إسقاط نظام البشير «بكل الوسائل المتاحة». فهذه الجبهة تضم عددا كبيرا من القوات، خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار التقديرات التي تشير إلى أن عدد المقاتلين الشماليين السابقين في الحركة الشعبية يقدر بما بين 24 و30 ألف مقاتل، معظمهم من جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، يضاف إليهم الآن مقاتلو ثلاث من بين كبريات الحركات المسلحة في دارفور. وليس سرا أن هذه الجبهة تحظى بدعم جوبا، ومع تصاعد التوتر على جانبي الحدود وتصاعد عمليات الجبهة الثورية فإن المواجهات قد تتحول إلى حرب بين الشمال والجنوب، وهو تطور لا تُحمد عقباه.

حكومة الإنقاذ كانت قد وضعت لنفسها هدفا يتمثل في محاولة التوصل إلى اتفاقات مع الحركات المسلحة الكبرى في دارفور لإنهاء الحرب هناك، وتقديم هذا الإنجاز على أنه مردود للسلام وتعويض عن انفصال الجنوب. وسعت لهذا الهدف من خلال منبر الدوحة والوساطة القطرية، ولما فشلت في مسعاها قررت استخدام كل ما في حوزتها من قوة لمحاولة توجيه ضربة قاصمة إلى الحركات الرافضة لمنبر الدوحة، وبالأخص لحركة العدل والمساواة، بقيادة الدكتور خليل إبراهيم، التي ترى فيها الخطر الأكبر، وكذلك لمنع تبلور تحالف الجبهة الثورية إلى تنسيق فعال على الأرض.

الواقع أن نظام البشير الذي «تخلص من عبء الجنوب»، على حد تعبير بعض المحسوبين عليه، ليتفرغ لمشروع جمهورية الإنقاذ الثانية، الذي يريد به تغيير وجه البلد سياسيا بعد تغيير خريطتها جغرافيا، كان يريد دخول العام 2012 وقد تمكن من تصفية ملف الحرب في دارفور، وذلك لسببين. الأول هو أن النصف الأول من العام المقبل سيشهد الاستفتاء حول الوضع الإداري لدارفور، وما إذا ستتحول إلى إقليم واحد أو تظل ثلاثة أقاليم مثلما هو الوضع الحالي، وهو الاستفتاء الذي أعلنت حركة العدل والمساواة معارضتها له. السبب الآخر هو أن الأشهر المقبلة مقرر لها أن تشهد كتابة الدستور الجديد الذي لا بد أن يتطرق إلى شكل الحكم والدولة والعلاقة بين المركز والأقاليم، ويتناول قضية الهوية؛ فنظام الإنقاذ يعتبر مشروع الدستور ركيزة أساسية لما يسميه الجمهورية الثانية، ولهذا سعى إلى محاولة استقطاب القوى السياسية المختلفة للمشاركة في «حكومة القاعدة العريضة» بهدف إعطاء مشروعية لدستوره المزمع من ناحية، ولتوريط الخصوم في تحمل المسؤولية معه، وإفشال أي تحرك لنقل هبات الربيع العربي إلى السودان، لا سيما مع اشتداد الضائقة الاقتصادية واتساع بوادر التذمر على الأوضاع والنظام.

في هذا الإطار، يمكن النظر إلى قتل الدكتور خليل إبراهيم، في ما قالت الخرطوم إنه معركة مسلحة، بينما ذكرت حركة العدل والمساواة أنه «اغتيال» بصاروخ موجه أطلقته طائرة على معسكر رئيسها. فحكومة الإنقاذ كانت تعتبر الرجل أخطر معارضيها في دارفور، خصوصا بعد محاولته تنفيذ انقلاب بالغزو المسلح للعاصمة من جهة أم درمان في عام 2008. وعلى الرغم من اتهامه بالخيانة وإصدار أحكام بالإعدام على عدد من مقاتليه الذين اعتقلوا عقب تلك العملية، فإن الحكومة دخلت في حوار معه، بوساطة تشادية – قطرية، أدى إلى توقيع اتفاق إطاري، وإصدار الحكومة عفوا عن المحكومين بالإعدام من الحركة. لكن الاتفاق سرعان ما تعثر ولم يؤدِّ إلى ما كانت تأمل فيه الحكومة من انضمام الحركة إلى «منبر الدوحة». ويبدو أنها بعدما يئست منه، قررت تصفيته؛ إذ أعلنت حركته أنه تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة في طرابلس إبان أحداث ليبيا الأخيرة؛ حيث كان يقيم في ضيافة القذافي، وهرب من هناك بعد انهيار النظام وسيطرة الثوار. ومنذ دخوله مجددا إلى الحدود السودانية، بدأت عملية رصد ومراقبة لتحركاته مثلما اتضح من عملية استهداف معسكره وقتله قبل تمكنه من العبور إلى الجنوب والالتحام بقوات الجبهة الثورية الجديدة.

العملية رفعت درجة التوتر في دارفور، وأدت إلى رفع حالة الاستعداد في الخرطوم أيضا؛ تحسبا لأي رد فعل انتقامي من حركته. وبهذا ينتهي العام والسودان أبعد ما يكون عن السلام والاستقرار، وأقرب ما يكون إلى ارتفاع حدة المواجهات والاستقطابات، وزيادة الضغوط مع دخول عام 2012، وهو سنة كبيسة على أي حال.

[email protected]