الصحافة في مهب الربيع العربي

TT

للمرة الأولى منذ بدأت عملي الصحافي، أشعر أنني أحشر في زاوية ضيقة ومعتمة يجب أن أتمرد لأخرج منها. ليس فقط أن أصغر ناشط في التنسيقيات السورية، وفي قرية نائية، ينافسني في نقل الأخبار وتصويرها ونشرها، بل أن ليس بمقدوري أن أصدقه أو أكذبه. اضطرت الصحافة العربية لأن تنقل مئات الأخبار من ليبيا وسوريا، دون أن تتمكن من معاينة مدى صدقيتها. وتضاربت الأخبار من مصر تكرارا ليتبين بعد وقت أن ثمة التباسات لم يكن جلاؤها بالهين في البداية.

للمرة الأولى عاش العالم العربي، هذه السنة، انقلابا عارما لم يذق له طعما منذ جلاء الاحتلالات الأجنبية. وكان على الصحافة «النزيهة» أن تجاري الانتفاضات الشعبية في الشوارع، وعلى المواقع الاجتماعية، في تحد لم يسبق لها أن شهدت له مثيلا، نجحت مرارا وأخفقت تكرارا، وتمكن ناشطون من خديعة محترفين كبار في الصحافة، أكثر من مرة. فقد أكد ليبيون، مثلا، أن القذافي على وشك السقوط بعد أقل من شهر من بدء الاحتجاجات الليبية، لكنه استمر بعدها سبعة أشهر. وأكد آخرون من سوريا أن الثورة لا تشوبها رائحة أي سلاح، ليتبين بعد ذلك أن السلاح موجود بيد البعض، ويلعب دورا في المعادلة.

التحدي المقبل لن يتوقف على محنة التحقق من صحة المعلومات، في مناطق عربية أخرى قد تكون مشتعلة ومغلقة على الصحافة، لكن التقنيات أيضا تسبقنا، والصحف الغربية تشهد حالة من الانقلاب الشامل على نفسها.

أحد الصحافيين الغربيين أخبرني أنه ذهب إلى سوريا، وكان مضطرا، على الرغم من وضعه الصعب هناك، لأن يكتب مقالا يوميا لصحيفته الورقية، وآخر بنفس الفحوى لموقع الجريدة الإلكتروني - الذي بات أهم من الورق - بصيغة مختلفة تماما، كما كان عليه أن يواصل تغريداته على «تويتر» كل 15 دقيقة، كي لا ينقطع القراء عن متابعة تطورات الوضع كما يعاينه هو بنفسه.

صديقة في صحيفة فرنسية تخبرني أن جريدتها وظفت صحافيين صغارا في السن وضعتهم وسط صالة التحرير، يتواصلون طوال النهار مع زملاء لهم، قد يكونون في مؤسسات منافسة، ويكتبون أخبارا تهم جيلهم، مثل تحركات الليدي غاغا أو آخر صيحات ألعاب الفيديو، ويقترحون مواضيع لا تخطر لمن هم أكبر منهم بسنوات قليلة على بال.

مراسلون غربيون كثيرون خاطروا بأنفسهم ودخلوا إلى سوريا خلسة، ليس حبا في الانتحار، ولكن لأن التحدي المهني بات أكبر من أن يواجه دون مخاطرة، فالمنافسة هائلة، والفوز بخبر جديد صار يساوي ثقله حياة كاملة للأسف.

صحافي سويسري متخصص في المجال الثقافي، روى لي أنه بمجرد أن اندلعت الثورة المصرية أوفدته صحيفته لمتابعة حال الآثار المصرية ومعرفة إن كانت بعض مواقع التنقيب تتعرض للنهب في ظل الفوضى، في محاول للإضاءة على موضوع لم يفكر به أحد في ذلك الحين. ويتهكم الزميل السويسري اليوم وهو يقول إنه وجد نفسه في مواجهة رجال الأمن المصريين الذين سحبوا عليه السلاح وظنوه لصا، يستغل فوضى الثورة ليسرق قطعا أثرية، لكن الصحافي الذي يرى أن فكرة صحيفته كانت جنونية وغريبة حينها، يرضيه اليوم أنه التقى الأهالي المحيطين بالآثار وأخبروه عن بعض السرقات التي تمت تحت أعينهم وكتب تحقيقاته من هناك، بينما كانت عدسات البسيطة مسلطة على نقطة واحدة في مصر لا ترى غيرها، وهي: ميدان التحرير.

كل الميادين باتت مجالا للمنافسة، وأي فكرة مبتكرة حتى ولو هامشية، صارت تضحي الصحافة في سبيلها كي تحفظ ألقها المهدد.

الصحافة العربية ما تزال تشعر بشيء من الطمأنينة، لكن بالنظر إلى ما يرويه الزملاء الغربيون، يبدو العام المقبل حاسما في ظل تطور هائل ستشهده المواقع الاجتماعية، حيث سيتجاوز عدد المنضمين إلى الـ«فيس بوك» المليار، كما تتسبب التلفونات الذكية - بحسب دراسات مثيرة جدا - بإكساب الجيل الجديد عادات مختلفة وسبلا في القراءة جديدة تماما.

ليس فقط أن شيوخ المجلس العسكري المصري اضطروا لمخاطبة الشبان عبر موقع إلكتروني، لكن رجال السياسة، مثل سعد الحريري ونجيب ميقاتي، باتوا على تواصل مباشر مع جمهورهم على «تويتر»، في حين تتابع الصحافة، مكتوبة ومرئية، تصريحاتهم اليومية على الموقع. وآخر الأخبار تتحدث عن تغريدات هيفاء وهبي وإليسا وفيسبوكيات نانسي عجرم، وأخبارهن الطازجة التي يزودن بها القراء، من دون واسطة الصحافة الفنية، وتفاديا لاجتهاداتها المغرضة. والأمر أكثر جدية بكثير، فمع غيبوبة الصحافة بمناسبة عطلة عيد الميلاد، تواصلت خلال 48 ساعة وزيرة التدريب والتطوير المهني الفرنسية، نادين مورانو، مع 100 ألف من متابعيها على «تويتر» بما يقارب 200 تغريدة، فيها من الحميمية والنقد والسياسة ما جعل وسائل الإعلام تستفيق بعد العيد لتكتشفها وتكتب عنها.

صحافيون في عمر الستين هم اليوم في حالة إعادة تأهيل من خلال دورات خاصة تنظمها صحفهم، فمؤسساتهم لا تستطيع الاستغناء عنهم، لأن لهم من الخبرة والكفاءة ما يعجز عنه جيل يقال إنه يجافي العمل الميداني، ويغرق في المكالمات والرسائل الهاتفية، ويرتكب أخطاء في المعلومات العامة فادحة وخطرة، وصلت حد التهديد بأزمات دبلوماسية أكثر من مرة.

هذا ما يجعلنا نرى اليوم في الصحافة العالمية شيوخا كبارا وشبانا صغارا جنبا إلى جانب، يساند بعضهم بعضا بما يملك كل منهم من خبرة جيله، لمواجهة ما سمته مجلة «نوفل أوبسرفاتور»، تحولا حضاريا عالميا لن ينجو منه أحد.

والتحول الأكبر، كما يجمع عليه المراقبون، يتأتى من حتمية سقوط النظام الليبرالي الجشع، الذي جعل السلطة - مالية وسياسية - في يد حفنة من الناس، وهمش الطبقات الأخرى، حتى ما عاد المستثمر المتوحش يجد من يشتري بضاعته. وبعودة الدور إلى المواطنين العاديين في المنطقة العربية حتى قبل واشنطن ونيويورك أو باريس وروما، فإن التصنيفات كلها انقلبت.

للمرة الأولى لم تعد لائحة الشخصيات الأغنى في العالم مع نهاية السنة هي التي تشغل القراء، وإنما لوائح تحمل أسماء الأكبر تأثيرا، والأبرز دورا. وبحسب جريدة «لو فيغارو»، مثلا، فإن اثنين من بين عشر أيقونات عالمية لهذه السنة هما من العرب، وعلى رأس الجميع محمد البوعزيزي الذي أشعل المنطقة كلها حين أضرم النار في جسده، والشخصية العربية الثانية هي علياء المهدي، الصبية المصرية التي تعرت اعتراضا على نفاق المجتمع وكذب الرجال في تعاملهم مع المرأة. وأن تكون إحدى أيقونات العالم العشر امرأة عربية بسبب تعريها لهو أمر لم يعتده من طاردوا بن لادن، وانشغلوا بأخبار «القاعدة» والتطرف الإسلامي، من الغربيين.

عام 2011 كان عام الصدمة والمفاجآت الكبرى. العام المقبل سيكون بالنسبة لبعض العرب نقطة البداية والتقاط الأنفاس، كما استعادة زمام المبادرة، والصحافة ستجد نفسها مضطرة لأن تعيد النظر في دورها ومحتواها وأدواتها قبل أن يفوتها القطار.