خيانة الإنسان وصدق الحيوان

TT

قضيت ليلة الأمس أتفرج على الفيلم الكلاسيكي من عام 1984، «باليه بحيرة البجع» من أداء فرقة باليه أوبرا باريس الوطنية وموسيقى تشايكوفسكي وإخراج نوراييف، الراقص المسلم الداغستاني الخالد. وفيها رقص رقصته الأخيرة قبل موته بالإيدز.

البجع طيور مائية تعتبر رمزا للجمال البريء بريشها الأبيض الناصع وجيدها الطويل ورأسها الشامخ وعينيها الكبيرتين الكحيلتين. صيغت حولها شتى الأساطير، لا سيما ما يتعلق بإخلاصها لحبها. فالمعروف أن أحدها إذا فقد زوجه، أقام على حبه وحزن عليه ورفض أي زوج جديد، ثم غنى بكائيته الأخيرة ومات. وهي ما يسمى بأغنية البجعة الأخيرة. شهدت بنفسي هذه المأساة حيث كنت أعمل بجانب بحيرة كفرشم وأكل ثعلب زوج إحدى البجعات. وهي قصة محزنة حقا أوردتها في مقالة سابقة.

تروي أسطورة «بحيرة البجع» حكاية الأميرة أوديت التي صب ساحر عليها سحره وقلبها إلى بجعة تعيش مع الطيور في الغابة السوداء. أعطاها فرصة لعودتها لحياة البشر إذا حضرت كفتاة حفلة الأمير سيغفريد ونجحت في الحصول على حب شاب صادق يقيم على حبه لها حتى الصباح. في هذا الباليه الذي ألفه الموسيقار الروسي تشايكوفسكي، تدخل أوديت الحفلة وتفتن فيها برقصها الأمير الأعزب سيغفريد. ويعبر الاثنان عن حبهما المتبادل بدويتو راقص مثير. يعدها الأمير بزواجه بها. تخرج أوديت لتخبر الساحر بما وقع. ولكن الساحر ينتهز فرصة خروجها من الحفلة فيدس فيها فتاة ثانية، راقصة لعوبا، تفتن هي الأخرى الأمير الشاب فيقع في هواها ويعدها كذلك بالزواج.

يرقصان رقصة كلها شبق وجنس.

بخيانة وعده لأوديت، يحكم الساحر عليها بقضاء بقية حياتها بجعة في الغابة. لقد فشلت في الحصول على رجل واحد بين البشر يقيم على حبه ويصدق وعده وكلمته. ترقص أوديت رقصتها الأخيرة، رقصة تراجيدية كئيبة أثارت الدموع في عيني، وهي تغمض أجفانها وتلوي جيدها وترتجف أصابعها.

وأثارت أيضا أفكاري في القصة. لماذا يا عزيزتي الأميرة الصغيرة، تكتئبين على مفارقة مجتمع البشر؟ كل ذلك الصدق والإخلاص الذي تجدينه بين الطيور، أين تجدينه بيننا نحن معشر الرجال من بني آدم، المخلوقات التي فُطرت على الخيانة؛ الخيانة الزوجية، خيانة القلب وخيانة الوطن وخيانة المال والتجارة، وخيانة الأصدقاء، وخيانة كل خيانة؟ لماذا يا حبيبتي أوديت تتعطشين لحياة القصور الشامخة والقلاع المنيعة التي شيدت بعرق الكادحين من الفقراء وعجنت بدماء الشهداء والأبرياء؟ أين ذلك من حياتك حول هذه البحيرة الحالمة، تحتضنها أشجار السرو والبلوط، لا تسمعين فيها غير تغاريد الطيور عند كل صباح وكل مساء، ونقيق الضفدع الذي يبعث بمراسيل الهوى لأنثاه عبر الجداول الدافقة فتسبح إليه؟

طوبى لك يا أوديت تعيشين بين معشر البجع بعيدا عن معشر الإنسان وعن مجتمعه الوسخ. آه! أوديت، ويا ليتك تدلين هذا الساحر البارع إلى عنوان بيتي. لعله يقلبني إلى سلحفاة لم تسمع بالعراق ولا فلسطين ولا الجامعة العربية ولا أمة محمد ولم تعرف ما ذقته منهم من وجع القلب ووجع الدماغ.