الإسلام السياسي.. التشدد القديم والاعتدال الجديد

TT

إشارات التخلي عن التشدد المألوف عن الإسلام السياسي في مرحلة السعي لبلوغ السلطة تكاثرت في هذه المرحلة، وبلغت حدودا ما كان يمكن توقعها قبل الفوز في الانتخابات.

والتشدد، إلى جانب المسوغات العقائدية، هو حاجة للقوى السياسية في مرحلة المعارضة، والتعرض للقمع والاضطهاد. فليس غير الطروحات المتشددة ما يحرج سياسات ومواقف الأنظمة في الشؤون الخارجية والداخلية؛ ذلك أن التشدد هو الدجاجة التي تبيض ذهبا في مجتمعات العالم الثالث، التي تتسع فيها، باستمرار، مساحات الساخطين على نظمهم.

ولقد راكمت الطروحات المتشددة جمهورا واسعا، كان منتشرا حيث لا تصل نعماء السلطة، ومختفيا حيث لا تستطيع عيون النظم الوصول إليه، ولو سألت أي جهاز أمني في عهد مبارك وزين العابدين والقذافي عن نسبة الإسلام السياسي في بلدانهم ومجتمعاتهم لقدموا لك أرقاما متواضعة توازي أعداد المعتقلين أو الملاحقين أو المتفق على أسقفهم في الانتخابات، ولا أخال جهازا واحدا أو نظاما واحدا قرأ، ولو على نحو تقريبي، ما سيحدث له حين يأتي ذلك الزلزال الذي يخرج الناس من المخابئ إلى الشوارع والساحات، ويوفر لهم وصولا آمنا إلى صناديق الاقتراع حيث الاكتساح الحقيقي لظاهرة «سلسلة التسعات» الأزلية، التي نام عليها الحكام كما لو أنها وسائد سحرية مريحة تطيل أمد الحاكم حتى إلى ما بعد الموت.

أخيرا خرج الإسلام السياسي من تحت قبضة القمع وسوء تقدير السلطات وسياساتها، ووجد نفسه في طليعة السباق حاصدا الميداليات الذهبية والفضية، تاركا البرونزية للآخرين، الذين مارسوا المعارضة الأنيقة عقودا، وامتهنوا شعارات الحداثة الغربية بترجمات مختلفة تحت عناوين ديمقراطية وليبرالية ويسارية... إلخ.

قبل أن يستقر الإسلام السياسي على مقاعد الحكم كان لا بد من قراءة أولية لشروط الانتقال من مرحلة الفوز السهل إلى مرحلة الاختبار الصعب وحتمية النجاح فيه. وهنا لا مناص من الإسراع في توفير الشروط الضرورية لذلك، وأولها بالطبع التخلص من لغة التشدد واعتماد لغة الاعتدال.

غير أن الانتقال هذا لن يكون بلا ثمن، وقد يكون وصفة مضمونة للفشل وضياع الأصوات في الانتخابات المقبلة؛ ذلك أن التشدد من المواقع البعيدة عن السلطة والبعيدة كذلك عن المسؤولية المباشرة عن مصالح الناس يوفر مصداقية تلقائية للمتشدد ما دام الأمر واقعا في دائرة التحليل والوعد، أما حين يجد الواعظ نفسه في موقع من يتعين عليه الوفاء بوعوده فساعتئذ تبدأ الإخفاقات وتتحول الثقة بالواعظ إلى إدانة.

ثم إن الاعتدال الذي لا بد أن يحل محل التشدد لن يكون مجرد خيار لغوي ولا حتى مواقف يجري استبدالها حسب مقتضيات الحال، بل إنه فكر وثقافة وآليات وخبرة وسلوك، فأين هي اليد الأصولية التي تقدر على الإمساك بكل المتناقضات التي يعج بها المجتمع لتجد حلولا ناجعة لها، تنطلق من فهم الإسلام السياسي لشعار «الإسلام هو الحل» مع الاضطرار إلى التعامل مع واقع محلي وإقليمي وعالمي كل بناه الثقافية والاقتصادية والتعليمية والإدارية والقانونية لا صلة لها بالإسلام، أو بتعبير أوضح لا صلة لها بالفهم الأصولي للإسلام الذي يرى في تدمير أبو الهول مثلا إنجازا أهم ألف مرة من تطوير الدخل القومي في مصر أو إخراج البلاد من عمق أزمة اقتصادية متمادية؟

ثم إن الاعتدال لم يعد مجرد تصريحات وتأكيدات لتطمين أميركا وأوروبا وإسرائيل، إنه على هذا الصعيد سلوك سياسي وتحالفي غير طوعي تمليه اتفاقات موثقة لا يكفيها القول إنني «أحترم أو ألتزم أو أعارض» بل لا بد من التقيد بآليات الحفاظ على هذه الاتفاقيات نصا وروحا، وفي حال تراكم المخالفات والخروجات قد يجد العالم نفسه أمام احتمالات خطرة تخل بمعادلات التوازن القائمة وقد تنقل الجميع إلى وضع مختلف لا يرغبون به.

على كل حال كان لا بد من أن يعتلي الإسلام السياسي منصات التتويج، وأن يحصل على فرصته في الحكم مثل سابقيه؛ فوراء هذا الإسلام السياسي قاعدة شعبية عريضة هي ليست مجرد أصوات تصب في صناديق الاقتراع، بل هي فوق ذلك طلبات بعضها ممكن والآخر صعب والآخر تعجيزي.

وأمام هذا الإسلام السياسي وضع إقليمي ودولي آثر التشجيع وإعطاء الفرصة لاختبار الأداء والتقيد بما يوصف عادة برعاية المصالح المشتركة، مع إضافة بند بالغ الحساسية وهو حقوق الإنسان وكيفية صيانتها وخدمتها وفق المواصفات الغربية الصرفة.

أخيرا..

فإن الإسلام السياسي، الذي تغذى طويلا على فشل من سبقوه.. واستفاد كثيرا من مبادرات مختلف القوى الاجتماعية والطائفية.. لا بد أن يجد نفسه وفي مرحلة مبكرة للغاية في القوالب ذاتها التي وجد غيره نفسه فيها؛ ففي العالم الثالث لا توجد خيارات سهلة ولا تغييرات ميسرة، بل تحديات داخلية وخارجية قد تطيح بأهم النوايا الطيبة والتطلعات.