فلسطين: تاريخ عريق ومتأصل الجذور

TT

أصبحت قضية الهوية الفلسطينية والتاريخ الوطني الفلسطيني مثارا للجدل، لا سيما في ضوء التصريحات المزعجة والمقلقة التي يدلي بها العديد من الأميركيين. وبصفتي ممثلا للشعب الفلسطيني في الولايات المتحدة، أود أن أقول لكم كل شيء عن الفلسطينيين كشعب.

ونعود إلى ما هو أبعد بكثير مما يمكن أن يتذكره أولئك الذين يشككون في وجودنا، حيث تعود نشأة مدينة أريحا، وهي مسقط رأسي، إلى 10.000 عام قبل الميلاد، مما يجعلها أقدم مدينة مأهولة بالسكان في العالم. إننا، نحن الفلسطينيين، نعيش في مكان يراه كثيرون مكانا مهما للغاية في نقطة تلاقي ثلاث قارات مختلفة، بالإضافة إلى أنه يضم مكانا مقدسا لأكثر من نصف سكان المعمورة. وفي حقيقة الأمر، كان ذلك بمثابة نعمة ونقمة في الوقت نفسه، حيث حصدت فلسطين مزايا وعيوب ما يقدمه العالم. لقد عشنا تحت حكم عدد كبير من الإمبراطوريات: الكنعانيين والمصريين والفلسطينيين والإسرائيليين والفرس واليونانيين والرومان والصليبيين والمغول والعثمانيين، وأخيرا البريطانيين. وقد أدى هذا إلى إثراء منطقتنا من الناحية التاريخية والثقافية والتراثية. في الواقع، لو كانت أشجار الزيتون، التي يعود بعضها لقرون طويلة، تتكلم، لقالت الكثير والكثير عن فلسطين وتاريخها.

ولذا فإننا فخورون للغاية لكوننا فلسطينيين ونقدر مكاننا ووضعنا الخاص في هذا العالم، وهذا هو السبب في أننا مرتبطون بأرضنا وهويتنا، ولا أعتقد أن هناك مكانا قريب الشبه بفلسطين. بالطبع هو وطن صاخب وغير مفهوم، وخطير للغاية في بعض الأحيان، لكنه وطننا في نهاية المطاف. لقد علمتنا القرون التي قضيناها تحت حكم مجموعة مختلفة من الإمبراطوريات أن الإمبراطوريات تأتي وتذهب، ولا شيء يبقى سوى الموروثات والقيم، وها نحن نحمل تلك القيم اليوم بكل فخر واعتزاز.. وهي قيم تؤمن بأن العائلة مقدسة، وأن التعليم أمر لا غنى عنه، وأن التسامح الديني هو شيء فطري. إن حقيقة وجودنا بعد زوال كل تلك الإمبراطوريات هي شهادة على قوتنا وقدرتنا على الصمود. وبالطبع، فإننا، كما صرح المرشح الرئاسي نيوت غينغريتش في الآونة الأخيرة، جزء من العالم العربي؛ من العرب في الأراضي المقدسة. لقد تشربنا نحن العرب بمزيج من سمات الحضارات التي مرت علينا، فأصبحنا نجمع بين اللون الأسود، والبني والأبيض، والعيون الداكنة والملونة، وكل ألوان وأشكال الشعر المختلفة. إننا مثل الأميركيين عبارة عن مزيج من الشعوب تحددها هوية واحدة وشاملة، وينسى كثيرون في الولايات المتحدة أن الفلسطينيين هم من المسلمين والمسيحيين، ويتجاهلون حقيقة أن المسيحيين الفلسطينيين هم من نسل المسيح وحماة المسيحية في مهدها.

لقد أصبح تاريخنا الحديث متشابكا مع محنة اليهود الأوروبيين الذين يسعون إلى إنهاء قرون من الاضطهاد الذي مارسه الغرب ضدهم. ويجب ألا ننسى أن الفلسطينيين واليهود كانوا يعيشون في فلسطين قبل الحرب العالمية الثانية في وئام كبير. لقد كان والدي شريكا مع يهودي يدعى آرون في مخبز مشترك في حي البقعة التحتا في القدس، وقد قصت علي والدتي قصصا وحكايات عن الفترة التي كانوا يعيشون فيها مع اليهود في سلام وطمأنينة خلال هذه الفترة، والتي انتهت في عام 1948، ثم بدأ الصراع نتيجة القهر تحت حكم الآخرين وطرد أكثر من نصف شعبنا. في الواقع، لقد كانت تجربة مؤلمة؛ تلك التجربة التي فجرت طاقتنا الدفاعية التي نتميز بها والتي صمدت على مدار السنين: المثابرة والثبات والإيمان بالمصير الواضح لأولئك الذين تمسكوا بقيمهم في مواجهة القمع.

لقد طورنا تمثيلنا السياسي وانخرطنا في الساحة الدبلوماسية وقدمنا برنامجا وطنيا واقعيا يعالج مطالبنا المشروعة، فضلا عن شواغل كل أطراف النزاع. وكان البرنامج الوطني هو ذلك الحل القائم على إقامة دولتين، حيث وافقنا على أن يقتصر حقنا على تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية على 22 في المائة فقط من وطننا التاريخي، وقمنا بذلك من أجل إرساء السلام، مع إدراكنا الواعي بأن السعي وراء «العدالة المطلقة» هو مهمة فاشلة في نهاية المطاف. وعلاوة على ذلك، لم ننتظر أيضا حتى تتم إزالة كل القيود المفروضة على حريتنا قبل السعي وراء تحقيق هدفنا. وبفضل إيماننا بقدرتنا والروح التي نتمتع بها، قمنا ببناء مؤسسات الدولة في إطار التحضير لهذا اليوم الذي طال انتظاره عندما نحتفل بالحريات التي تتمتع بها دول العالم الأخرى.

إننا، الشعب الوحيد في العالم الذي ما زال تحت وطأة الاحتلال العسكري، جاهزون وننتظر تلك اللحظة التي نقف فيها ويتم الاعتراف بدولتنا، نحن الفلسطينيين الذين تمتد جذورهم في أعماق أرضنا. إننا شعب عريق وثري ومفعم بالأمل، لكن لم تكتمل حريته على الرغم من اعتراف 129 دولة به حتى الآن، وهؤلاء هم الفلسطينيون لمن لا يعرفهم.

* ممثل منظمة التحرير الفلسطينية لدى الولايات المتحدة

* خدمة «نيويورك تايمز»