أجراس الإنذار من نيجيريا

TT

زيارة الإرهاب المدوية الدموية لدور العبادة المسيحية في نيجيريا يوم عيد الميلاد تواجهنا بتحديات تستوجب اليقظة والاحتياط ليس فقط من خطورة الجماعة الإسلامية «بوكو - حرام» المسؤولة عن القنابل التي راح ضحيتها أكثر من 35 قتيلا وعشرات الجرحى، بل لعدة أسباب تاريخية وجغرافية وسياسية، لعل أهمها خطران: على المسلمين أنفسهم في القارة الأفريقية، وعلى التحول الديمقراطي كمطلب أساسي لملايين فجروا ثورات الشمال الأفريقي في تونس ومصر وليبيا.

جاء «الانتقام» بعد يوم بإلقاء قنبلة على مدرسة إسلامية. اتحاد الكنائس كان أعلن أن قنابل «بوكو - حرام» يوم عيد الميلاد (الأخيرة في سلسلة من 26 عملية إرهابية نفذتها الجماعة عام 2011) بمثابة «إعلان الحرب» على المسيحيين. الخطورة تتجاوز بديهية أن اندلاع حرب بين مسلمين ونصف سكان أكثر بلدان أفريقيا عددا (150 مليونا) سيكون كارثة على ملايين المسلمين في الكاميرون وتشاد والنيجر وبنين، فلم تنشب في أفريقيا حرب أهلية لم تنجر إليها أطراف متعددة من البلدان المجاورة.

والى جانب سهولة انتقال الأسلحة والإرهابيين أنفسهم فهناك خطورة انتقال عدوى الممارسات المدمرة (بوكو – حرام داهمت السجون في السنوات الماضية لتطلق سراح المجرمين كمقدمة لتأسيس فيدرالية جريمة مع عصابات الخطف وتهريب السلاح والمخدرات والرقيق والسطو على البنوك)، عبر النيجر وتشاد إلى ليبيا ومصر وتونس، خاصة مع تسيب الحدود في الأشهر الأخيرة.

الجماعة النيجيرية تستكمل تحولها كوكيل لعصابة «القاعدة» وهو مخطط أيمن الظواهري (العقل الجهنمي المدبر وليس الممول أو الواجهة كالراحل أسامة بن لادن) بأن تصبح «القاعدة» كبنك إصدار بطاقة ائتمان (credit card) بينما يتم صرف الإرهاب من مراكز للصرف حول العالم بإدخال الرقم السري، أي الانتماء الآيديولوجي.

ومثال بوكو – حرام نموذج على أن التساهل مع ما يعتبره المسؤولون والصحافة وصناع الرأي العام في البداية مجرد دعوة ظاهرها العودة إلى السلف ورفض التحديث والثقافة الغربية، غالبا ما يتيح الفرصة لنموها إلى خلايا سرطانية تنتشر في الأعضاء الإسلامية في جسد أي أمة متعددة الطوائف حتى تشل الجسد نفسه وتتحول بعض أعضائه إلى وحش يلتهم الجسد ولا يجد من حوله وسيلة لمقاومة السرطان المميت إلا بتدمير الجسد المصاب بأكمله، وهنا مكمن الخطورة على الإسلام والمسلمين أنفسهم.

بوكو (بلغة الهوسا - Hausa في غرب أفريقيا) يعني تقريبا «التعليم الوثني» (ترجمة عربية غير دقيقة لـ Animist كصفة لما هو خارج الديانات السماوية/ الإبراهيمية، بينما Animism تعني «الأرواحية» أي مذهب «حيوية المادة»)، لكن بوكو - حرام كتعبير تعني في نيجيريا «التعليم الغربي أو غير الإسلامي حرام». ثم تطور الأمر ليكفر زعماء الجماعة كل المجتمع النيجيري بما فيه المسلمين الآخرين. الجماعة بدأت في 2002 على يد مؤسسها الراحل محمد يوسف (1970 - 2009) كمجرد دعوة لتطبيق الشريعة على المسلمين فقط. وفي غضون سنوات رجمت النساء وجلدت الفتيات وأصدرت أحكام بتر الأعضاء والإعدام في محاكمات - تشبه رقصة مختطفي الزوار وتعذيبهم في أفلام طرزان - أقامها وسط الأدغال والقرى قضاة أميون لم يقرأوا كتابا في حياتهم بما في ذلك القرآن لجهلهم باللغة العربية.

ومما سهل تسامح المسلمين وتغافلهم قبل المسؤولين في نيجيريا، أن الاسم الرسمي للجماعة عند التأسيس هو «جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد». وما بدأ بدعوة من فوق المنابر إلى تحجيب النساء والامتناع عن شرب الكحوليات، تطور إلى رفض الفنون والتسلية ومناهج التعليم الرسمية، أولا بالكلام، ثم بالعنف؛ ثم تجاهل الدعوة «بالمعروف» وإفراغ الجهاد من معناه الروحي كجهاد النفس إلى تفسير بن لادن - الظواهري للجهاد كقتل وإرهاب.

آيديولوجيا الجماعة ترفض التعليم الغربي وكل ما هو حديث أو تصعب مطابقته لتفسيرهم الضيق للقرآن (وأكثرهم لا يعرف العربية إلا حروفا بلا معنى) ويحرمون ملابس كالبدل والقمصان ومناهج علم الحيوان والعلوم الطبيعية ويرفضون الانتخابات والديمقراطية ويعتبرون أن حكام نيجيريا كفرة. السبب في التطور نحو التفكير الإظلامي أن رفض العلم والمنطق والانغلاق في الجهل كان ولا يزال القاعدة الأساسية للجماعة التي كفرت بقية الشعب. فالمؤسس الراحل محمد يوسف رفض قبول الحقائق العلمية ككروية الأرض وأن المطر هو أصلا من المياه التي بخرتها حرارة الشمس فتحولت إلى سحاب نزل منه المطر حسب مقابلته مع «بي بي سي» في 28 /7/ 2009 بضعة أيام قبل مصرعه في اشتباكات مع قوات الأمن النيجيرية.

وهذا التطور نحو الأسوأ هو النموذج للحركات الإسلامية التي تبرر العنف بتسميته دعوة إلى الجهاد، وهو ما حدث مع طالبان التي بدأت بمجموعة طلاب في كتاتيب الملا محمد عمر تطورت دعوتهم لتطبيق الشريعة إلى منع بالقوة لتعليم البنات، وتحريم حلاقة الذقن والشعر وممارسة الفن، فهُدمت آثار كانت من أهم كنوز البشرية، وخيم الجهل والظلام على أفغانستان، ومنها بدأ تدويل الإرهاب.

بوكو - حرام سارت في الاتجاه نفسه بالتحول إلى الإرهاب الدولي في أغسطس (آب) من هذا العام بتفجير انتحاري في مبنى الأمم المتحدة في العاصمة أبوجا فقتلت 21 شخصا من مختلف الجنسيات. إعلان الحرب على المجتمع الدولي، ممثلا في الأمم المتحدة برره المتحدث باسم الجماعة بنفس خطاب «القاعدة» بإدانة المنظمة الدولية كأداة للنفوذ الغربي، معلنا أن الأمم المتحدة «أصبحت واحدة من الأهداف الأساسية». وهذا التحول «القاعدي» إلى الإرهاب الدولي عادة ما يكون هروبا إلى الخارج من مأزق داخلي أو تطورا للبقاء إذا ما ضاقت القاعدة المحلية بالوجود. فبعد سقوط طالبان في أفغانستان 2003 تحول نشاط «القاعدة» إلى باكستان المجاورة واليمن والصومال.

أو مثال ما حدث على الناحية الأخرى (الغربية) من حدود النيجر؛ عندما خسرت جبهة الإنقاذ الإسلامية (وبدورها من تأسيس المتطرفين الجزائريين العائدين من أفغانستان) الحرب الأهلية في الجزائر فانضمت إلى بن لادن والظواهري لتأسيس «القاعدة في المغرب الإسلامي» معلنين استهدافهم للأهداف الغربية في كل مكان وأهمها دوليا – من الناحية الرمزية - الهجوم الانتحاري على مكاتب الأمم المتحدة في العاصمة الجزائر في ديسمبر (كانون الأول) 2007.

الدرس من تطور دعوة بدت للمسؤولين سلمية فلم يروا ضررا من تطبيق الشريعة اختياريا بالمعروف، لتنتهي إلى ما يهدد بتمزيق أمة من 150 مليونا على يد جماعة ولدت من أقصى أدغال الشمال ولم تتمكن من الحكم يوما. ترى ماذا سينتهي إليه تطور جماعات دينية جهادية الأصل تسربلت «بالاعتدال» ورفعت لافتات علمانية/ مدنية للمرور تحتها عبر صناديق الاقتراع عندما تتمكن من الحكم؟