الرياض والمثقفون

TT

دعت وزارة الثقافة والإعلام السعودية إلى لقاء استمر ثلاثة أيام في الرياض سمي «الملتقى الثاني للمثقفين السعوديين»، حضرته مع قلة من خارج المملكة. الدعوة وجهت إلى ألف مثقف سعودي ومثقفة، الحضور كان أقل من ذلك، كانت به وجوه معروفة، وغابت عنه بعض الوجوه المعروفة أيضا، إلا أنه تجمع تاريخي بوجود ومساهمة المرأة.

ثلاثة أيام من النقاش داخل القاعة، وأكثرها خارج القاعة في بهو الفندق المخصص للقادمين من خارج الرياض، حيث احتدم النقاش وتعددت مداخله. شخصيا لدي حساسية من مفهوم «مثقف»، فهو في فضائنا العربي غير دقيق وغير محدد أيضا على نطاق واسع، إلى درجة أنه لو طالبنا أفرادا من «قبيلة المثقفين العرب» أن يحدد لنا المعنى كما يفهمه، لأصبح لدينا عدد من المعاني بعدد مَن سُئل.

الحساسية أيضا قادمة من إحساس شعبي بـ«فوقية» المثقف العربي، أو عدد كبير منهم. أفضل ما قرأت في مفهوم الثقافة والمثقف كان للمرحوم محمود أمين العالم، حيث قال إن هناك فروقا مفاهيمية بين العرب والغرب في تحديد الثقافة والمثقف، فهي في الغرب تعني الحضارة بما فيها من مفهوم الإنجاز والبناء والمأسسة وسيادة القانون والاستثمار والبرمجة، وهي عند كثير من العرب قائمة على شكل تعبيري في كلمة أو فكرة أو عادة أو تقليد، إنها كما يقول العالم، لديهم ما يتم صنعه، وعندنا ما يتم قوله، هي باختصار أن العربي يتحدث عن خطاب ثقافي لا عن مضمون حضاري، وهناك فرق بين صانع المناسبة وشاعر المناسبة!

ذلك المفهوم لأمين العالم ناتج عن معاناة خبرها الرجل الثقيف في فضائنا العربي، ومن هنا فإنه يلخص المفهوم بأن الثقافة تدل على «تلاقح جذور معرفية عميقة ومبادئ إنسانية عامة»، استطرادا إلى أن هناك ثقافة إيجابية وثقافة سلبية إن نظرنا إليها من زاوية التنمية الشاملة، وهناك أيضا ثقافة رفيعة وثقافة عامة، إنما من وظائف الثقافة الإيجابية في المجتمع وظيفتان في رأيي، الأولى هي «خلق الذات الجماعية عن طريق تفهم التعددية وقبولها، والثانية تخفيف التوتر الاجتماعي عن طريق مناقشة القضايا الاجتماعية بشفافية».

بالعودة إلى الندوة أستطيع أن أخرج منها بعدد من الملاحظات:

الأولى أن البعض من المهتمين قد قابلها قبل أن تعقد بوابل من النقد، فكتب أحدهم في الصحف ما يلي: «أكاد أجزم أن هذا الملتقى لن يذهب إلى مكان، وسوف تراوح دوائره وسط توصيات لا تمت إلى المثقفين بِصلة». على الرغم من ذلك القول الحاد الذي نشر قبل يوم من بدء اللقاء، فإن المفاجأة في اللقاء كانت مختلفة، فقد قُدمت بحوث قام بها رجال ونساء من داخل الفضاء العملي للممارسين الثقافيين بروح نقدية واضحة، فكانت الجلسة الأولى عبارة عن مسح للبنية التحتية إن صح التعبير (المكتبات وخدماتها)، حملت على بعض أوجه التقصير التي لاحظتها الأبحاث المختلفة، كما تم أيضا نقد القصور الملاحظ في العلاقات الدولية الثقافية التي لم تستخدم كل طاقات المملكة وقدرتها في الولوج إلى الفضاء الثقافي الدولي.

الملاحظة الثانية وهي في نظري إيجابية، وجود ومساهمة المرأة السعودية. كان اللغط بين البعض عندما وجدوا في البرنامج جلسة خاصة للمرأة وعن المرأة، فقال البعض: أين ستجلس المتحدثات؟ فكان جواب المنظمين عمليا: لقد جلسن الأربع مع مديرة الندوة على المنصة، مقابل الجمهور، وقدمن أطروحاتهن التي لم تكن بأقل من أية قضايا تسمعها في بيروت أو القاهرة أو أي عاصمة عربية أخرى، حتى وصف أحد المنظمين الجلسة بأنها «تاريخية»، وهي تستحق أن يقال فيها ذلك.

الملاحظة الثالثة أن الموضوعات المطروحة التي شارك في نقاشها الجنسان كانت موضوعات حيوية حملت هموم وتطلعات المشاركين في غد أفضل للمجتمع السعودي، الذي يخطو الآن من خلال الإصلاحات التي قدمها الملك عبد الله إلى آفاق جديدة، خصوصا في موضوعات نشر التعليم الحديث، ومشاركة المرأة، والأعداد الكبيرة من المبتعثين إلى الخارج، وكلها تصب في تغذية المجتمع في القادم من السنين بطاقات حيوية تُعرّف العالم على مجتمعها وتساهم بإيجابية في تطويره. لعل بعض الإشارات هنا لها أهمية، فقليلون يعرفون أن مدير عام المعهد العربي الفرنسي في العاصمة الفرنسية هي سيدة من السعودية، وهي التي قدمت رؤية واضحة لما ترغب في أن يحققه المعهد للثقافة العربية في المستقبل في اللقاء، كما أن الإنتاج الأدبي من السعودية تزخر به قوائم الناشرين، وخصوصا في أدب السرد الذي يبوح بمكنونات التفاعل الاجتماعي.

رؤيتي أن قدرة المثقف السعودي، رجلا كان أو امرأة، على تحويل السالب إلى موجب في مجتمعه عن طريق الثقافة الإيجابية هو التحدي الذي يواجه الجميع، فالقوة الناعمة موجودة في الإنتاج الثقافي، غير أن تمكينها والعناية بالاستراتيجيات ومن ثم الخطط والبرامج من جهة، وأيضا تمكين الطاقات المختلفة للمجتمع المدني للقيام بمسؤولية نشر الثقافة من جهة أخرى، سوف يرفد هذا الكم من الطاقة باتجاه أكثر إيجابية في عصر لم تعد لديه إلا قوة الإقناع للعمل على تطوير المجتمع، فالمملكة في تقديري تنتقل اليوم من التراكم الكمي في الموضوع الثقافي إلى الكيفي، ولا يجزع المسؤول من سماع النقد البناء وتفهمه.

لم تخلُ المناقشات من رؤى عميقة، كقول أحد المتدخلين: «إما أن تعرض نفسك كما تريد، وإما أن يراك الآخرون كما يريدون». لقد كان التفكير «خارج الصندوق» هو السائد في النقاش الحيوي لأن التحولات التي تسير في عروق المجتمع السعودي تحولات ملحوظة وبين تيارين، الأول يريد البقاء حيث هو، والثاني يريد مسايرة العالم المتغير، وتلك طبيعة الحياة وسنتها، إنها السير إلى الأمام.

إذا عطفنا ذلك على الفضاء الإلكتروني الذي يشهد توسعا غير مسبوق، فإننا نرى ومن خلال الأرقام التي سردها تقرير التنمية الثقافية الرابع الذي أطلقته مؤسسة الفكر العربي مؤخرا، يلاحظ التقرير النمو الكبير للاستخدام بين أبناء ومواطني المملكة العربية السعودية، فيرصد أن المدونات من النساء السعوديات بلغ 70%، في حين كان حظ الرجال 30% فقط، كما نجد أن أبناء المملكة العربية السعودية يأتون في المرتبة الثالثة في متابعة المنتديات الثقافية على الشبكة الافتراضية.

أرى أن فكرة اللقاء وتجميع هذا العدد الكبير من الرجال والنساء المهتمين بالشأن العام لمناقشة دور الثقافة في تنمية المجتمع السعودي، خطوة تحسب للمنظمين، وأيضا بث النقاشات حية على القناة الثقافية أوصل الرسالة إلى الجمهور الأوسع. لقد قلت في اللقاء إن ما فوق الأرض في المملكة أهم مما تحتها، فهناك قوة إيجابية يمكن الاستفادة بها للوطن، وهي لمن يريد أن يرى ممثلة في هذا الكم والنوع من المنتج الثقافي الذي يحتاج إلى تشجيع أكبر، حيث إن الثقافة هي في رأيي قاطرة التنمية الشاملة الحقيقية.

آخر الكلام:

غدا يبزغ عام جديد على البشرية، بعد عام شهد تغييرا جذريا في بعض مناطق العالم العربي، بسبب فشل النخبة في فهم التغيرات الهيكلية التي صاحبت العصرنة والفضاء المفتوح، التي جعلت من مجتمعاتها على معرفة بالوقائع التي تحققت في المجتمعات المتطورة، إنه عصر تخطي الحدود.