التعبير قبل الصدق

TT

كان يسعدني أنه يأنس إلى نصيحتي في أمور كثيرة ويطلبها. وكان يستدعيني في أوقاته المحيرة – وليس المحرجة – علني أسعفه بالرأي. وغالبا ما عرضت عليه حلولا كثيرة وتركت له أن يختار. وكنت أعرف سلفا ماذا سيختار منها، لكن كان من المهم أن يشعر الرجل الذي يدير البلاد بالأمرين معا: أولا أنني أستحق ثقته، وثانيا أنه يستحق موقعه.

وفاجأني ذات يوم بسؤال مذهل لم يخطر لي إطلاقا، قال: ما رأيك في أدائي حتى اليوم؟ تمهلت قليلا، فأضاف: إذا كانت الحقيقة صعبة فأنت تعرف كيف تخرجها! قلت: كل ما أريد أن أقوله لك أن الحياة كلها إخراج. ليست كذبا على الإطلاق، بل إخراج. ليس أبشع من الكذب، الأبيض والأسود والمزركش والمفضوح. ولكن لا بد دائما من طريقة لقول الحقيقة. هل هناك أقرب إليك من ابنك؟ إنك لا تستطيع أن تقول له كف عن السهر، بل سوف تقول له ضاحكا: أكبر كذبة سمعتها في حياتي قول عمر الخيام: وما قصر في الأعمار طول السهر! لأنك لو نهيته مباشرة لأهنته وأحرجته.

فإذا كانت العلاقة مع أولادنا تحتاج إلى صيغة مقبولة فكيف الحديث إلى العموم، بسائر طباعهم وطبقاتهم؟ وقلت له، لعل أبرع «مخرج» بين حكام العرب هو الحسن الثاني: طريقته في ارتداء الألبسة الداكنة، وربطات العنق ذات اللون الواحد! وأضفت معتذرا: البذلات والربطات التي تختارها تتناقض مع الموقع الذي أنت فيه.

لن أقول ماذا كان وقع النصيحة، ولكنني كنت وما أزال أعتبر أن الوقار جزء من صورة المسؤول، وهذا لا يعني أنه ليس بشريا يحلم بساعات راحة وحرية، لكنه يستطيع أن يتمتع بها بعيدا عن العمل. وقد تألمت صدقا لما كتبته كوندوليزا رايس في مذكراتها عن مظهر الرئيس اللبناني السابق إميل لحود، لأنها تجاوزت كل حدود رسمية، لأنني كنت من الذين يغارون على صورته كرئيس للجمهورية.

فقد القذافي نصف هيبته في لباسه والنصف الآخر في لسانه. وقلد ذات مرة نيلسون مانديلا في ارتداء القمصان الأفريقية المزهرة فبدا مثل معمر القذافي في ثياب نيلسون مانديلا. لقد ندمت على أشياء كثيرة في الحياة، أهمها عندما أسأت، ليس القول، بل الطريقة في القول. ليس الصدق بل التعبير عنه. أفضل النوايا تتحول إلى إهانة إذا أرسلناها.. بحجر.