ظاهرة درسها بطرس غالي.. وبرهن عليها «بيريس»!

TT

على فضائية «دريم» المصرية، سألت الدكتور بطرس غالي، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، عما إذا كان لديه تفسير لتراجع إقبال الناخبين في جولة الإعادة لانتخابات المرحلة الأولى، من مراحل تشكيل برلمان الثورة الثلاث، عنه، في اليوم الأول من الانتخابات؟!

كان اليوم الأول، من الانتخابات، في المرحلة الأولى، قد شهد إقبالا غير مسبوق، من جانب الناخبين، وكانوا قد زحفوا في طوابير ممتدة، على صناديق الاقتراع، كما لم يحدث من قبل، في أي انتخابات جرت في الأمد الزمني المنظور، أو على الأقل، منذ قامت ثورة يوليو عام 1952.

وكان كل مراقب لما جرى، عنده تفسير للظاهرة يختلف عن تفسير غيره، وحين جاء الدكتور بطرس ليفسره، قال في البداية كلاما تقليديا، عن أن الذين ذهبوا في أول يوم، لم يشاءوا أن يذهبوا في الإعادة، وعن أن الناخب المصري، بشكل خاص، والعربي بوجه عام، ملول بطبعه، وأنه، أي الناخب، في حالة انتخابات برلمان الثورة المصري، قد اعتقد بشكل أو بأخر، أنه قد أدى ما عليه، عندما سعى إلى الصناديق، في اليوم الأول، فلما جاءت جولة الإعادة، كان من الطبيعي ألا يكون الحماس من ناحيته، في الإعادة، هو نفسه ما كان في داخله، وصادرا عنه في أول يوم!

وفجأة.. سكت الدكتور بطرس ولمعت عيناه، كأنه قد تذكر شيئا لا يجوز أن ينساه، ثم قال: تعرف أني درست هذا الموضوع زمان، وتوصلت فيه إلى قاعدة تكاد تكون هي الحاكمة لمثل هذه الظاهرة التي تسأل عنها، وهي قاعدة تسري على مستوى دول بكاملها، وليس في نطاق مصر وحدها!

ولأمر ما، أريد أن أرجئ التوقف أمام إجابة الدكتور بطرس عن السؤال، قليلا، لأقول، إني في اللحظة التي تابعت فيها مع غيري زيارة سلفا كير، رئيس جنوب السودان، إلى إسرائيل، الثلاثاء قبل الماضي، كنت أجد إجابة الأمين العام السابق للأمم المتحدة، صالحة تماما لتفسيره ما قيل، في أثناء الزيارة، سواء من جانب سلفا كير، أو حتى من جانب الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريس!

قال الرئيس الجنوبي عبارة يجب أن تظل ترن في آذاننا، وأن نظل نسأل أنفسنا، ونسائلها، عما إذا كنا مسؤولين جميعا، عن جريانها على لسانه، على الصورة التي جاءت عليها، وعما إذا كان علينا أن نتصرف بعدها بشكل مختلف، مع العالم من حولنا، لعلنا نتدارك شيئا مما فاتنا فيما يتصل بهذا الشأن.. ففي اللحظة التي كان بيريس يهدي فيها «شمعدانا» إلى رئيس جنوب السودان، قال الأخير مخاطبا رئيس إسرائيل: لولا أنتم.. ما كنا نحن اليوم!

إلى هذا الحد، كانت العلاقة بين الطرفين، وإلى هذا المدى، كان اقتناع الرئيس الجنوبي السوداني، بأن فضل تل أبيب عليهم هناك في الجنوب، لا يمكن نكرانه.. وهو فضل، كما ترى، لم يتوقف عند حدود مجرد المساعدة الإسرائيلية للجنوبيين، على مستويات تقليدية من تلك التي تقدمها الحكومات لبعضها البعض، ولكنه فضل يصل إلى حد الوقوف الإسرائيلي وراء «الوجود» ذاته، بالنسبة للدولة الجنوبية، وبمعنى آخر، فإن العكس يبقى صحيحا بالضرورة، إذْ إن ما يمكن فهمه معكوسا، أن تل أبيب لو كانت قد تراخت في مساندة الجنوبيين، ما كان لهم الآن، كيان أصلا!.. ربما!..

ولو أن الأمر توقف عند هذه النقطة، لكانت المسألة عادية، لا لشيء، لأن هناك دولا كثيرة ساعدت الجنوبيين، في سبيل أن تقوم لهم دولة، ولو أننا رحنا نراجع ما قيل خلال الأعوام الثلاثة السابقة على قيام الدولة الجنوبية في السودان، خصوصا من ناحية الولايات المتحدة، ثم الغرب إجمالا، فسوف نلاحظ أنه كانت هناك رغبة قوية في قيام الدولة الجنوبية، بأي طريقة.. ولكن هناك فرقا، بين أن يساند الغرب، ومعه واشنطن، قيام جنوب السودان، كدولة، أو أن يظل يدفع في هذا الاتجاه بقوة، وبين أن تكون إسرائيل تجهز لهذه اللحظة، لحظة قيام دولة جنوب السودان، منذ منتصف الستينيات.. فهذا بالضبط ما قاله بيريس، أثناء لقائه مع سلفا كير، وكانت المرة الأولى تقريبا التي يعترف فيها الرئيس الإسرائيلي. بأن جهوده لمساندة الجنوبيين لتكون لهم دولتهم، تعود إلى أيام أن كان نائبا لوزير الدفاع الإسرائيلي في الستينيات من القرن الماضي.

لا يملك المرء حين قراءة كلام من هذا النوع، على لسان سلفا كير، أو بيريس، إلا أن يشعر بـ«وخز» في قلبه، لا لشيء، إلا لأن السؤال يبقى، والحال كذلك، ليس عما فعلته إسرائيل، إزاء الجنوبيين، وإنما عما لم نفعله نحن، في القاهرة، أو أي عاصمة عربية أخرى، هي أقرب بطبيعتها إلى «جوبا» من تل أبيب، في كل الأحوال.

ولو أنت بحثت فسوف تجد جهدا مصريا مبذولا مع الجنوبيين، مرة، وسوف تجهد جهدا عربيا مبذولا معهم، مرة أيضا، أو حتى مرات.. غير أن ما سوف يميز الجهد من جانب تل أبيب، عن جهدنا نحن، في الاتجاه نفسه، هو أنه عندنا جهد متقطع، بينما عندهم جهد موصول.. وهذا بالضبط ما أجاب به الدكتور بطرس عن سؤالي، فكان تقديره أنه لما تفرغ خلال فترة من حياته، لدراسة الظواهر المختلفة، لدى الشعوب النامية، كانت المحصلة التي توصل إليها، أننا لا ندرك حتى اليوم، قيمة «التراكم» في العمل، وفي الحياة عموما، بالنسبة للأفراد وللدول على حد سواء!.. فالحماس لدينا لا يكاد يتوفر، تجاه أي خطوة، حتى يتبخر، لتصبح الخطوة، والحال هكذا، مبتورة، وغير مكتملة.

الإنجاز لا يمكن أن يتم في حياة الفرد، أو الدولة، في يوم واحد، وإنما هو في حاجة إلى «نفس طويل» في العمل.. وهذا «النفس» بفتح النون والفاء، وتسكين السين، لن يكون مجديا، إذا كان قصيرا، أو قليل الجهد، ولكنه، بيقين، ينبغي أن يظل حيا، وممتدا، وموصولا، ومنتظما، ومتدفقا، طول الوقت، وهو، عندما يكون كذلك، تكون النتيجة هي ما حدث ويحدث بين جوبا وتل أبيب، وعندما يكون العكس، يقع ما وقع في انتخابات برلمان الثورة، لأن تراخي الناخب عن الذهاب في الإعادة، وفتور حماسه فيها، عنه في اليوم الأول، أدى إلى أن تتخلق داخل الصندوق «حصيلة» لا نزال ننكرها «كلاما» ولم نجرب أن نقاومها منذ البداية «عملا».

شيء مدهش، ومحزن، أن يجيب الدكتور بطرس غالي، عن سؤال في عام 2011 فيأتي جوابه، بمثابة العبارة الكاشفة عن طبيعة علاقة بين جوبا وتل أبيب، تتكشف لأول مرة، رغم أن عمرها يقترب من نصف قرن!