ليس لي مكان!

TT

في الماضي السحيق، كنت أقرأ في كتاب هيدغر الجميل «دروب تؤدي إلى لا مكان». وكنت أشعر بالانجذاب والانخطاف إلى هذا اللامكان الساحر الخالي من رعب البشر وزمجرات التاريخ. وفي ذات الوقت كنت أتساءل: هل يوجد يا ترى شيء اسمه اللامكان؟ أين هو؟ في أي منطقة من مناطق العالم يتموضع؟ لم يكن يخطر على بالي إطلاقا أني سأصل إلى هذا اللامكان يوما ما بل وأستقر فيه نهائيا. بمعنى من المعاني فأنا شخص غير موجود على الإطلاق. ربما كنت موجودا من خلال كتاباتي وترجماتي، ولكني كشخص من لحم ودم غير موجود أبدا، لا أرى أحدا ولا أحد يراني، اللهم إلا بعض المتسكعين والمتسكعات من أمثالي.. عندما لا تستطيع الانتماء إلى أي جماعة أو حزب، عندما تفقد كل تواصل اجتماعي مع البشر، عندما تصبح منشقا حتى على نفسك، فإنك تقترب من منطقة اللامكان هذه. لا ريب في أن المجروحين الذين يتساقطون الآن دفاعا عن إنسانيتهم، عن حريتهم وكرامتهم، هم من جماعتي لأني جرحت قبلهم ودفعت الثمن باهظا. ولكن ما عدا ذلك؟ ما علاقتي بكل ما هو موجود؟ لا أستطيع أن أنتمي إلى أي طائفة ولا أن أنحصر داخلها حتى ولو ذبحوني! الانغلاقات ضيقة علي. الناس الطيبون موجودون في كل الجهات، والأشرار أيضا. مملكتي ليست من هذا العالم، يقول السيد المسيح.. أريد عالما آخر، أحلم بمجتمع آخر لن أراه بأم عيني. ولكن لا توجد قوة على سطح الأرض قادرة على أن تمنعني من الحلم به.

تذكرت هنا الناقد الفرنسي موريس بلانشو الذي عاش 96 سنة تقريبا، دون أن يراه أحد. وقد فشلت كل الإذاعات والجرائد في أن تجري معه مقابلة واحدة. لاحظ المفارقة: المثقفون عادة يتراكضون على الأضواء والمقابلات والواجهات الاستعراضية، وهو يهرب منها بأي شكل ممكن، فترصدوه من بعيد لكي يأخذوا له صورة، وهو خارج من السوبر ماركت. ولكنها صورة غامضة، مشوشة، إلى درجة أنك لا تعرف هل هو بشر أم شبح.

قد يقول قائل: ولكن أفضل طريقة لكي تنجو بجلدك هو أن تسكن منطقة اللامكان هذه، حيث لا يستطيع أحد أن يزعجك أو يصل إليك، وحيث لا تضطر إلى اتخاذ أي موقف سلبا أو إيجابا. وبالتالي فكف عنا نواحك ونعيبك أرجوك! أنت محسود لأنك تسكن منطقة خالية من العرب والعجم، من السلطة والمعارضة.. إنك تغني على ليلاك كما تشاء وتشتهي.. فعلا إنك أكثر خبثا ومكرا مما نظن. لكن لنكن جديين أكثر: كان العالم الأنثروبولوجي كلود ليفي ستروس يتمنى لو أنه عاش في القرن التاسع عشر وليس في القرن العشرين. وأنا شخصيا أتمنى العكس تماما؛ أتمنى فعلا ومن كل قلبي لو أني ولدت في القرن المقبل، وليس في هذا القرن. بمعنى أتمنى لو أني ولدت عام 2050 وليس 1950.. لماذا؟ لأني أعتقد أن كل مشكلات العرب التي نعاني منها الآن سوف تكون قد انتهت عام 3000، أي عندما يكون عمري خمسين سنة فقط، عندئذ ستكون الحروب الأهلية قد انتهت، والأنظمة القراقوشية البوليسية قد زالت، وانتفاضات «الربيع العربي» قد آتت ثمارها فعلا. عندئذ ستكون الأحقاد الطائفية التي لا تطفئها مياه دجلة والفرات قد انطفأت، وربما تكون الخلافات بين أجنحة المعارضة السورية قد انتهت أيضا.. من يعلم؟ كم سيطيب العيش عندئذ في بلاد العرب؟ كم سنشعر بالرغبة في العودة إلى الأوطان بعد طول غياب؟ ولهذا السبب فعندما أقول إني أعيش في منطقة اللامكان، فإني جاد كل الجدية ولا أمزح. أنا لا أعيش في هذا العصر، وإنما في العصر الذي سيليه. جان جاك روسو كان يقول هذه العبارة البليغة: من لا يفكر إلى أبعد من أنفه، إلى أبعد من عصره، ليس مفكرا. وأنا أتبع هذه النصيحة أو أحاول اتباعها بقدر الإمكان. كل كتاباتي وترجماتي عبارة عن أحلام يقظة قد تتحقق بعد خمسين أو ستين أو سبعين سنة ولكن ليس الآن. التنوير العربي الإسلامي الذي أحلم به مثلا لن يتحقق قبل ذلك التاريخ. وباء الطائفية، من كل الجهات، لن ينتهي قبل تلك اللحظة، لذلك أعتذر عن عدم تقديم التهاني لكم بالعام الجديد، ولا حتى بالذي يليه.. سوف تصل إليكم تهاني الحارة بالبريد الإلكتروني أو بالأحرى الميتافيزيقي عام 3000 بالضبط. قبل ذلك التاريخ لا أستطيع أن أهنئ أحدا، ولا حتى نفسي. كم أتمنى أن أخرج من هذا العصر الموبوء بالضغائن والحزازات! لا أستطيع أن أعيش في جو الكره والحقد إلى الأبد. أكاد أختنق.. قليلا من الحب أيها الأصدقاء.

سمعت أنهم اكتشفوا مؤخرا كوكبا جديدا يبعد عن الأرض بملايين السنوات الضوئية. وقد فكرت في الهجرة إليه لكي أتنفس الصعداء. ولكن أخشى ما أخشاه قبل أن أضع قدمي على سطح هذا الكوكب الجميل أن أجد العلويين والسنية في انتظاري! فماذا أفعل؟ كيف أتجه؟ إلى أين أذهب؟

وهل يهرب الإنسان من ملك ربه

فيخرج من أرض له وسماءِ؟!