لقد كان الكينزيون على حق

TT

قال جون مينارد كينز عام 1973: «إن فترة الازدهار لا الركود هي الوقت المناسب للتقشف». وكان فرانكلين روزفلت على وشك أن يثبت صحة مقولته من خلال محاولة إحداث توازن مبكر جدا في الميزانية، ما من شأنه أن يدفع الاقتصاد الأميركي، الذي كان ما زال في مرحلة التعافي حينها، إلى حالة من الركود الشديد. إن خفض الإنفاق الحكومي خلال مرحلة ركود وتراجع اقتصادي «يزيد الطين بلة»، ففي هذه الحالة ينبغي لإجراءات التقشف أن تنتظر قليلا حتى يستعيد الاقتصاد عافيته.

مع الأسف، في نهاية عام 2010 وبداية 2011، اعتقد السياسيون وواضعو السياسات في أكثر الدول الغربية أنهم يملكون المعرفة ويدركون الصواب؛ وهو ضرورة التركيز على عجز الميزانية، لا توفير الوظائف، رغم أن اقتصاد تلك الدول كان لا يزال في بداية تعافيه من الركود الذي أعقب الأزمة المالية. من خلال الاعتماد على النهج المناهض للمذهب الكينزي، انتهى بهم الأمر إلى إثبات صواب رؤية الكينزيين مرة أخرى. بطبيعة الحال يتناقض دفاعي عن الاقتصاد الكينزي مع طريقة التفكير السائدة؛ ففي واشنطن على وجه التحديد، تم النظر إلى فشل حزمة الحوافز التي قدمها أوباما للدفع باتجاه توفير فرص عمل، باعتباره دليلا على أن خفض الإنفاق الحكومي لا يمكن أن يوفر فرص عمل.

مع ذلك أدرك الذين توقعوا منذ البداية الأرقام أن قانون التعافي وإعادة الاستثمار لعام 2009 (أكثر من ثلثه جاء على هيئة خفض غير فعال للضرائب) كان أصغر من أن يعالج هذه الأزمة. وقد تنبأنا أيضا برد الفعل السياسي الناتج عن ذلك. لذا لم ينبع الاختبار الحقيقي للمذهب الاقتصادي الكينزي من المحاولات غير الجادة إلى حد ما من قبل الحكومة الفيدرالية من أجل تعزيز الوضع الاقتصادي الذي ازداد سوءا بسبب خفض الإنفاق على مستوى الدولة، وكذلك على مستوى الولايات، بل من دول أوروبية مثل اليونان وآيرلندا التي كان عليها فرض إجراءات تقشفية شديدة كشرط للحصول على قروض سريعة، وعانت من تراجع اقتصادي وصل إلى حد الأزمة، حيث انخفض إجمالي الناتج المحلي في الدولتين بدرجة كبيرة. لم يكن من المفترض أن يحدث هذا طبقا للفكر الذي يغلب على الخطاب السياسي.

في مارس (آذار) عام 2011، أصدر أعضاء اللجنة الاقتصادية في الكونغرس، الذين ينتمون إلى الحزب الجمهوري تقريرا بعنوان «إنفاق أقل وديون أقل ونمو اقتصادي». وسخر التقرير من المخاوف بأن يؤدي خفض الإنفاق في فترة الركود الاقتصادي إلى زيادة الوضع سوءا، موضحا أن خفض الإنفاق سيزيد من ثقة المستهلك ورجال الأعمال، وربما يؤدي إلى الإسراع بعجلة النمو لا عرقلتها. كان من المفترض أن يكونوا على وعي أكبر من ذلك حينها، فقد انكشف خطأ الأمثلة التاريخية لـ«التقشف التوسعي» التي استعانوا بها لدعم نهجهم. هناك أيضا حقيقة محرجة هي أن الكثير من اليمينيين سارعوا بإعلان نجاح آيرلندا والتدليل على مزايا خفض الإنفاق في منتصف عام 2010 ليروا بعد ذلك الأزمة الآيرلندية تزداد سوءا وتبخر ثقة المستثمرين.

المذهل أن هذا تكرر خلال العام الحالي، حيث انتشرت التصريحات بأن آيرلندا تجاوزت أزمتها مما يثبت أن التقشف يجدي نفعا، وظهرت في أعقابها أرقام باعثة على الاكتئاب مثل السابق. مع ذلك، يهيمن الإصرار على خفض الإنفاق الفوري على المشهد السياسي، مما يضر بالاقتصاد الأميركي. صحيح أنه لم تكن هناك إجراءات تقشفية جديدة كبيرة على مستوى الدولة، لكن ما زال هناك الكثير من التقشف «السلبي» مع تراجع حوافز أوباما واستمرار خفض النفقات على مستوى الدولة والمجالس البلدية.

يمكن القول الآن إن فرض التقشف لم يكن أمرا اختياريا بالنسبة إلى اليونان وآيرلندا، ولم يكن لديهما خيار سوى التخلف عن السداد والتخلي عن عملة اليورو. مع ذلك، من الدروس المستفادة خلال عام 2011 أن أميركا كان لديها خيار، ولا يزال أمامها، فربما تكون أميركا قد أصيبت بهوس عجز الميزانية، لكن تبعث مؤشرات أسواق المال برسالة مفادها أننا ينبغي أن نقترض المزيد.

مرة أخرى، لم يكن من المفترض أن يحدث هذا. لقد دخلنا عام 2012 وسط موجة من التحذيرات من حدوث أزمة مشابهة لأزمة اليونان فور توقف المصرف الاحتياطي الفيدرالي عن شراء السندات، أو خفض وكالات التصنيف الائتماني تصنيفنا الممتاز، أو إخفاق اللجنة الهمام في التوصل إلى اتفاق، أو شيء من هذا القبيل. مع ذلك، أوقف مصرف الاحتياطي الفيدرالي برنامج شراء السندات في يونيو (حزيران) وخفضت وكالة «ستاندارد آند بورز» تصنيفنا الائتماني الممتاز في أغسطس (آب)، ووصلت اللجنة إلى طريق مسدود في نوفمبر (تشرين الثاني)، والفائدة على الديون الأميركية في تراجع. وفي هذه المرحلة الفائدة على السندات الأميركية المحصنة ضد التضخم بالسالب، حيث يعتزم المستثمرون الدفع لأميركا من أجل الاحتفاظ بأموالهم.

خلاصة القول هي أن عام 2011 كان عام هوس النخبة السياسية لدينا بعجز الميزانية قصير المدى، الذي لم يكن يمثل مشكلة حقيقية، وفي أثناء ذلك زادت من سوء المشكلة الحقيقية، وهي البطالة الناتجة عن تراجع النشاط الاقتصادي.

الجانب الإيجابي من الأمر هو أن الرئيس باراك أوباما عاد مرة أخرى للنضال ضد التقشف السابق لأوانه ويبدو أنه يكسب المعركة السياسية. وربما في سنة من السنوات المقبلة نصغي إلى نصيحة كينز التي تصح في وقتنا هذا أكثر مما كانت تصح منذ 75 عاما.

* خدمة «نيويورك تايمز»