هل يمكن تأجيل المشروع الديمقراطي؟!

TT

كتبت في تسعينات هذه الصحيفة، داعيا إلى تأجيل المشروع الديمقراطي! كان رد الزملاء الكتاب بالرفض التام، إيمانا منهم برومانسية الديمقراطية المثالية. وكان أشدَّهم رفضا زميل عائد من قندهار، مقدما لنا إعجابه بالجوانب «الإيجابية» للطالبانية، مخففا من سلبياتها، كإغلاق مدارس البنات. والتشدد المتزمت في تطبيق الحدود. ثم التدخل في الحرية الاجتماعية والشخصية، كفرض اللحية. الشارب. ولباس الرجال تحت الركبة.

لست ضد الديمقراطية. لكن خوفي عليها. ومنها، هو الذي دعاني إلى اقتراح تأجيلها. ها هي ديمقراطية الاقتراع (غزوة الصناديق) أوصلت إلى عتبة الحكم والسلطة قوى دينية ليست لها تجربة ديمقراطية. أو خبرة في الحكم والسلطة.

2012 عام الخيبات. أو الانتصارات. أعترف بأني لست متفائلا. لا يعني ذلك أني متشائم. إنما أعتبر نفسي واقعيا. الواقعية رؤية غير متفائلة. لأنها تقييم عقلاني مُتّزن للحاضر. وقلق على المستقبل، من خلال تحليل المعطيات المتاحة الآن. من المشهدين السياسي والاجتماعي.

قبلت على مَضَض «التطمينات» التي أطلقتها القوى الدينية المنتخبة، مؤكدة التزامها بالحريات السياسية. لكن العبرة بالتطبيق الديمقراطي. الشواهد المبكرة لا توحي بالثقة في الوعد. تحدثت في الأسبوع الماضي عن انقلاب الحزب الديني (حماس) على السلطة الشرعية.

في مصر. المغرب. تونس، خاضت الأحزاب الدينية الانتخابات، على أساس ديني بحت، من دون أن تقدم رؤية موضوعية لقضية التنمية الأكثر إلحاحا: كيف ستعالج البطالة. الكثافة السكانية الهائلة. تخطيط المشروع الإنمائي والاقتصادي...

الأدهى والأمر أن القوى الدينية الفائزة تلح على إشراك قوى ليبرالية وحتى يسارية في الحكم معها! في المغرب، ابتلع الطُعم حزب التقدم والاشتراكية (الحزب الشيوعي). تردد حزب الاستقلال. ورفض الاتحاد الاشتراكي المشاركة.

في تونس، احتفظ حزب النهضة المُحاكي لحزب الإخوان في مصر بوزارات السيادة. وأسند إلى شريكيه الليبراليين منصبي رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان. أما في مصر، فالإخوان يريدون توزير الليبراليين، فيما يجب عليهم ضم السلفيين الأقرب إليهم.

تلقت القوى الدينية في الدول الثلاث تفويضا شعبيا قويا. فلماذا لا تريد أن تحكم؟ لأنها لا تريد أن تتحمل وحدها مسؤولية الفشل المرجح. تريد أن تحرق معها قوى ليبرالية، أصلا، هشة. ومأزومة، نتيجة لإخفاقها الانتخابي.

خلافا لكل هذا الاستحسان للديمقراطية التوافقية، أقول إنها خطر كبير على المشروع الديمقراطي. حَزْمُ الديني. والليبرالي. واليساري في حزمة حكومية توافقية، من شأنه تغييب المعارضة التي تنتقد. تحاسب. تطلع الشعب على أخطاء الحكم. فشلت حكومتا السنيورة وسعد الحريري التوافقيتان مع «حزب الله» و«أمل» والجنرال عون. قوى 14 آذار المعارضة اليوم لحكومة حزب الله، أكثر قوة. وحيوية، في كشفها عورات الحكم الداخلية والخارجية.

أقول: لا للحكومة الوفاقية في العراق. سوريا. مصر. لندع الأحزاب الطائفية والدينية تحكم وحدها، طالما أنها تملك أغلبية برلمانية. المعارضة الليبرالية سوف تكشف. وتعرّي أخطاء الحكم، حيث ينفذ المالكي الانقلاب البطيء على الديمقراطية، إلى درجة أن شريكه الحكومي مقتدى الصدر بات يطالب بانتخابات جديدة، هربا من فساد الحكم، وحيث وزراء الكتلة (العراقية) انسحبوا من الحكومة الفاشلة.

في سوريا، تخطئ المبادرة العربية (القَطَرية) في محاولة إجراء حوار ومصالحة بين المعارضة وبشار، على أساس إقامة حكومة توافقية. لماذا هذا الحرص على نظام طائفي/ عائلي فقد شرعيته منذ أن مارس ذبح شعبه؟ لندع التدويل يأخذ مجراه. العودة إلى تثبيت النظام سيمكنه من الاستمرار في غواية القتل والاعتقال.

منذ جمهوريتي أفلاطون وأرسطو، إلى الجمهوريتين الفرنسية والأميركية، كانت الديمقراطية شكلا ملازما لها. وحدها، الجمهورية العربية مسحت الديمقراطية. ابتذلتها بأشكال مظهرية أو توافقية. وبقوالب تعسفية وأمنية قَوَّضَت الحرية السياسية.

عاد صلاح البيطار إلى سوريا الأسد، من مصر السادات (1978). سأل البيطار عن الديمقراطية. أجاب الأب: يا أستاذ صلاح. ها أمامك مجلس الشعب. ها هو الحزب القائد وأحزاب الجبهة التقدمية (البلغارية) مؤتلفة في صيغة حكومية (توافقية).

حك البيطار ذقنه بسبّابته كعادته في حيرته. غادر سوريا محبطا. عندما نشر مظلة ليبرالية/ دينية تدعم إضراب النقابات المستقلة (المحامون. المهندسون. الصيادلة...) بات في مرمى الهدف. اغتيل البيطار في باريس (1980). وعد الأب النقابات المضربة بالديمقراطية. عندما حلت الإضراب، تم ضربها وتأميمها. واعتقل عشرات المضربين سنين طويلة. فلماذا يمنح العرب نظام الابن الفرصة لضرب الانتفاضة، بدعوتها إلى الحوار والمصالحة معه؟!

في مصر، لم يبلغ الصدام، بَعْدُ، الذروة، على الرغم من كل هذه الفوضى المريقة للدموع والدماء. جيش مصر الوطني غير جيش سوريا الطائفي. المشير طنطاوي ليس «القديسي» أركان حرب داود راجحة وزير الدفاع. جيش مصر انحاز إلى الانتفاضة. أزاح الرئيس السابق.

لكن ارتكب أخطاء. لم يؤجل المشروع الديمقراطي. لم يوسع مساحة المرحلة الانتقالية، ليمنح شباب الانتفاضة، والقوى الليبرالية الجديدة الفرصة الكافية، لالتقاط الأنفاس، وتشكيل إحدى مؤسسات الديمقراطية (الأحزاب).

تحت ضغط قوى مستعجلة سياسية ودينية، وشارعية فوضوية، أجرى المشير طنطاوي (بكل طيبة) انتخابات ديمقراطية. ففازت القوى الدينية الأكثر خبرة في إغواء الشارع وكسبه بجمعيات خيرية تطعم الجائع ليلة. وتعالج المريض يوما. لكن لا تفتح مدرسة. لا تشق طريقا. لا تقدم عملا. غدا، سوف نرى هذه القوى كيف تعمل كحكومة.

حدث الصدام غير المناسب في الوقت غير المناسب. شباب الانتفاضة يريدون إسقاط المجلس العسكري! لمن يسلمون مصر في المرحلة الانتقالية، وهم عاجزون عن حكمها.

منبوذون من شعبها؟ مع ذلك، فالصدام الأشد ضراوة قد يحدث بين المؤسسة العسكرية، والمرجعية الإخوانية/ السلفية البرلمانية، على الرغم من تأكيد المشير أنه سيسلم القوى الدينية الحكم والسلطة.

سَنُّ الدستور سيكون المحك والاختبار للديمقراطية الدينية. إذا أصرت الأحزاب الدينية على سن الدستور، وفق الشعار التلفيقي الغامض، والمتناقض (دستور مدني ذي مرجعية دينية)، فالمجلس العسكري، على الرغم من الضربات الإعلامية والسياسية التي تكال له، ربما يكون قادرا على تأجيل المشروع الديمقراطي، بحل البرلمان/الأعجوبة الذي تحمل فيه القوى الدينية تفويضا شعبيا شبه مطلق، لكن مضادا للحريات السياسية والاجتماعية.

لعل المجلس العسكري قادر على ركوب المغامرة، معتمدا على القوى الليبرالية والشبابية. تمديد المرحلة الانتقالية سوف يمكن مختلف القوى من إعادة تشكيل المشهد السياسي والانتخابي، بموضوعية ديمقراطية أعمق وأكثر توازنا، وفي حد أدنى من التكافؤ بين قوى الانتفاضة والقوى الدينية، داخل البرلمان، على الأقل.

مصر يجب أن تكون مثالا لجمهورية عربية ديمقراطية، تتناوب على حكمها قوى دينية أو ليبرالية، من خلال «ديمقراطية الاقتراع»، وليس من خلال «غزوة الصناديق». عندئذ، لن يكون هناك خوف من قوى دينية تحتكر الحكم، وتتمترس داخل السلطة. ولن يكون هناك قلق من قوى شبابية ما زالت تؤثر التبوُّل في ميدان التحرير على التعبير بسلمية حضارية عن آمالها تحت القبة البرلمانية.