سنة تملق الجماهير

TT

لم تكد سنة الربيع العربي، أو الربيع الإخواني كما وصفته سابقا، تنصرم، حتى ودعها مرشد الإخوان المسلمين في مصر بطريقته الخاصة.

حيث تم تداول رسالة كتبها المرشد محمد بديع لأنصار جماعته، نشرت في أكثر من مكان، بما في ذلك جريدة «الشرق الأوسط». في هذه الرسالة التي عنونها محمد بديع بـ«وضوح الهدف والإصرار عليه.. طريق النهضة»، تحدث عن اقتراب الوصول إلى الخلافة الإسلامية، وقال المرشد في رسالته الأخيرة «إن الجماعة أصبحت قريبة من تحقيق غايتها العظمى التي حددها مؤسسها الإمام حسن البنا، وذلك بإقامة نظام حكم عادل رشيد بكل مؤسساته ومقوماته، يتضمن حكومة ثم خلافة راشدة وأستاذية في العالم».

وهو في هذه الرغبة لم يختلق جديدا أو يختلف عما يقوله ساسة الحزب الإخواني (الحرية والعدالة) حول الديمقراطية، والحكم المدني، والمواطنة، وفكرة الدولة الوطنية الحديثة، وما يترتب على كل هذه القضايا من استحقاقات تنأى كثيرا عن خيالات وأجواء ومفاهيم الخلافة والحكم الإلهي الشامل الكامل في ظل ربيع عربي انطلق - كما قيل لنا في بداية السنة - من منطلقات إنسانية عالمية. وبسبب ما قيل عن منطلقات هذه الثورة «الإنسانية» حصل الربيع العربي على التعاطف العالمي الدولي باعتباره ثورة تنبع من نهر الحقوق الإنسانية والقيم المشتركة بين البشر وأحلام الناس بحكم مدني ورخاء وعدل ودولة قانون - ليس على غرار دولة المالكي طبعا - ولم يحز «الربيع العربي» كل هذا التعاطف العالمي الإنساني بسبب أنهم ينتظرون قيام دولة الخلافة التي يقودها المرشد القطبي محمد بديع ورفاقه أمثال المرشد الحديدي السابق مهدي عاكف!

ونحن نبدأ في تصفح أوراق السنة الجديدة 2012، ونتفرس في ملامح السنة الفائتة، لا بد من التذكير بأنه، وإن كان «الربيع العربي» أو الانقلابات العربية تمت في الرمق الأخير من السنة التي سبقت 2011، في ديسمبر من 2010، بحريق الشاب التونسي الشهير البوعزيزي، فقد انطلقت بعدها وعلى مدى نحو تسعة أشهر حالة من «العزف» والوجدانيات والتغني المقدس بالثورات العربية و«أسطرة» كل ما يمت بصلة إلى هذه الثورات أو الأحداث (الميادين، أسماء الأشخاص العاديين، المطالب مهما بلغت في محليتها وغرابتها، باختصار كل شيء يتعلق بجو الميادين)، وقيل لنا من قبل كتاب عرب من دعاة الدولة المدنية وهم كثر من مصر والخليج ولبنان والمهاجر العربية، بالذات في النصف الأول من السنة الفائتة، أن قيام الشباب العربي بالثورة دون رفع شعارات دينية دليل على تحضر الشعوب العربية والشباب العربي وأن التخويف بالإسلاميين كان مجرد «فزاعة» من قبل الأنظمة الحاكمة، فها هم الشباب العربي يرفعون شعارات مطلبية بحتة، وقيل لنا إن هؤلاء هم شباب العرب الحقيقيون، وهم الوجه الصادق للمجتمعات العربية...الخ..الخ.

لكن ثمار الصندوق الانتحابي بدأت تهطل في تونس ومصر، عواصم الثورة العربية، ومثلها طبعا المغرب، وقبل ذلك استولى الأصوليون بسلاحهم على المشهد في ليبيا، والآن يتهيأ الجزائريون لمشهد مماثل، حيث خرج حزب الإخوان من التحالف الحاكم.

لم يكد المشهد العربي الثوري يكشف زيف القشرة المدنية لحقيقة الثورة، ويتبين وجود ثوران ديني مبني على هشاشة التأسيس المدني في الوعي العربي العام، حتى وقعت الواقعة على رؤوس محرقي البخور منذ سنة في معبد الميادين الثورية العربية، خصوصا من نخب الكتاب والإعلاميين العرب، صار المشهد سورياليا، ليصبح التحكك بالإخوان المسلمين والإسلاميين هو الحاكم، وبدأت اللغة المدنية تخبو قليلا وبدأ التبرؤ من العلمانية وما يمت لها بصلة، تقربا للمشاعر الشعبية البسيطة، بشكل أو بآخر، كما حصل مع مرشحين في مصر أمثال الليبراليين: الليبرالي وحيد عبد المجيد الذي ترشح في تحالف الإخوان، ويتحدث البعض في مصر عن نية الإخوان ترشيحه لرئاسة المجلس البرلماني بدفع من الإخوان! بل إن الأخير كتب مؤخرا في «الأهرام»، يفسر سبب سقوط اليسار المصري أمام الإخوان المسلمين والسلفيين، ويرى أن ذلك بسبب انخراط اليسار المصري في معركة «وهمية» مع الأصوليين وهي معركة مدنية الدولة والحريات الاجتماعية، وتركهم لمعركة الانحياز للطبقات الكادحة وحقوق العمال. أي بعبارة أخرى يجب على الجميع ترك المعركة المدنية وحماية المكتسبات التي حصلت عليها المجتمعات العربية فيما يخص الحريات الخاصة ومفاهيم المواطنة المدنية العامة، تركها - حسب هذه النصيحة العجيبة - لصالح طرح كطرح محمد بديع، والزنداني في اليمن، ممن يريدون العبور بنا سريعا إلى دولة الخلافة الإسلامية فوق الحدود. بكل ما تحمله هذه النسخة من الخلافة من أفكار هوية مثل أفكار عبد المنعم الشحات، وصبحي منصور، وغيرهما!

هذا الخيلاء الأصولي، والوهج الشديد، جعل كثيرا من «الفراش» يتساقط في حرارته وإشعاعه المعمي للأبصار.

الأمر لم يتوقف عند مرشد الجماعة محمد بديع، فهذا هو أحد «معتدلي» الإسلاميين السياسيين، بل ومرشح للرئاسة المصرية، محمد سليم العوا، يشن، كما نقلت جريدة «أخبار اليوم» المصرية قبل بضعة أيام، هجوما شرسا على رجل الأعمال نجيب ساويرس، متهما إياه بارتكاب جريمة يعاقب عليها القانون. وقال العوا، خلال لقاء عقده بمدينة «أبو تيج» خلال جولته الانتخابية بمحافظة أسيوط، إن طلب ساويرس المساعدة المالية من الأميركيين والكنديين للتغلب على الإسلاميين في الانتخابات البرلمانية، وقوله للكنديين والأميركيين: «أعينونا بالمال على الإخوان» جريمة يعاقب عليها القانون، مضيفا: «إن ساويرس يستقوي بالأجانب على الدولة المصرية، ولو كان الأمر بيدي ما اخترته في المجلس الاستشاري».

لا يهمني تحديد ما قاله رجل الأعمال المصري القبطي، ولكن أذهلني قول العوا إنه يريد إقصاء هذا الإنسان من المجلس الاستشاري لأنه لم يعجبه.

أعرف أن العوا قال هذا الكلام ضمن حملة انتخابية شعبية، ومثل هذا الكلام التهييجي، يجلب له حماسة، ولكن المفترض بشخص يقدم نفسه كمرشح رئاسي لكل المصريين، فضلا عن كونه يقدم نفسه كمثقف مسلم عصري ومعتدل، أن يكون حذرا أكثر في تصريحاته، ولكنها حماسة اللحظة الثورية.

هذه السنة التي مضت، وربما إلى نهاية السنة الحالية أو منتصفها، ستكون موسم أفراح وليالٍ ملاح للتيارات الأصولية السياسية، وحقا لهم، وستكون بل كانت فعلا، بالنسبة لكل مدعي الطرح المدني والعلماني كارثة ومأساة، منهم من سيقول: إنها مجرد جولة عابرة، ولنا الجولة الثانية، ومنهم من سيقول: هناك انتهاكات انتخابية، وهناك من سيقول: هناك تمويل خارجي لإفساد الثورة في مصر (حسنا ماذا عن البلدان الأخرى؟). ومنهم من سيقول بل هذا من تدبير فلول النظام السابق.

الحق أنه لا هذا ولا ذاك، بل واضح تماما أن صعود الإسلاميين هو حقيقي جدا، ومعبر بالفعل عن إرادة الشارع العربي، هذه هي الحقيقة التي لم يرد «دراويش» الثورات العربية أن يصغوا إليها عندما كان يقال لهم إن بعض الإصلاح، بل كثيرا منه لكن ضمن إطار المؤسسات القائمة والدول الناجزة، خير من هدم المعبد على من فيه.

كانوا - أعني أنصار ميادين الثورة العربية - طيلة السنة الماضية يشتمون من يقول ذلك، ويتهمونه بخذلان الثورة، وأن الشباب العربي أثبت أنه غير أصولي أو طائفي.

اللوم كل اللوم يقع على نخب الإعلام العربي والثقافة، لأنهم كانوا من أنصار هذا الوهم الكبير الذي اسمه: الربيع العربي الذي جلب لنا أمثال هذا الخطاب الاجتماعي والديني الخطير المطروح في مصر وليبيا، ولاحقا اليمن...

بكلمة واحدة: سنة ربيع للأصوليين المسيّسين، ومن يتملقهم الآن، هذه السنة التي فاتت، ولكن يجب عليهم ألا يفرحوا كثيرا، فبعد الطبل والزمر، هناك فواتير ستدفع في نهاية الليلة!

وبعد:

دوما على الرغم من عشاق الجماهير، الوعي والقيادة هو قدر النخب وليس الجماهير.

[email protected]