الثورات والجيوش.. علاقة تحتاج إلى تصحيح

TT

لم يكن العرب بحاجة إلى الثورات والانتفاضات لتذكيرهم بالدور السالب الذي لعبه كثير من جيوشهم في الحياة السياسية؛ فالتاريخ العربي خلال أكثر من نصف قرن يشهد على سلبية هذه العلاقة، وآثارها المدمرة على تطور الحياة السياسية، منذ أول انقلاب عسكري وحتى المشاهد التي تتكرر أمام أعيننا اليوم للدبابات والمصفحات وحاملات الجند التي تقتحم الأحياء السكنية لقمع صوت الشعوب، دفاعا عن أنظمة جاءت بالانقلاب وحكمت بالقهر والاستبداد. لكن أحداث الربيع العربي ربما ساعدت في إلقاء المزيد من الضوء على هذه العلاقة، وعلى حقيقة ناصعة أخرى هي ضرورة ابتعاد أو إبعاد الجيوش عن السياسة. الثورات الشعبية لن تنجح في تحقيق التحول المدني الديمقراطي وترسيخه وسيلة للحكم والتداول السلمي عليه، إلا إذا تم إبعاد الجيوش عن السياسة وأعيد تعريف وترسيخ عقيدتها في حماية الأوطان والشعوب من المهددات الخارجية، بدلا من نهج الانقلابات وحماية أنظمة الاستبداد. فالناس يركزون كثيرا اليوم في دول الربيع العربي على جدل قضايا الدستور والمواطنة والدولة المدنية، وينسون القضية المهمة الأخرى وهي دور الجيوش كمؤسسات قومية يجب إبعادها عن السياسة.

كل جمهورياتنا العربية حكمتها أنظمة انقلابية عسكرية، باستثناء جيبوتي. حتى لبنان تداخلت فيه العلاقة أحيانا بين القصر والجيش، وبات رؤساؤه في السنوات الأخيرة يأتون من مؤسسة الجيش، وكأن المؤسسات العسكرية في بلادنا باتت هي الطريق والمؤهل للحكم. الانقلابات أفسدت الحياة السياسية بلا شك، وعطلت أي تطور طبيعي للحكم المدني، والأدهى من ذلك أنها حدثت أحيانا بمشاركة من قوى سياسية من اليسار أو من اليمين، بمعنى أن بعض التيارات السياسية باتت ترى الوصول إلى سدة الحكم بالانقلاب لا بالانتخاب، والنماذج على ذلك كثيرة من حكم البعثيين في العراق وسوريا إلى حكم الإسلاميين كما في الحالة السودانية، وغير ذلك كثير.

الثورات الشعبية العربية عرت الطبيعة المعقدة للعلاقة مع الجيوش؛ فالمحتجون في شوارع تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا كانوا يطالبون بإسقاط أنظمة عمقها وتاريخها عسكري حتى وإن ارتدت زيا مدنيا واستخدمت صناديق الاقتراع للقول إن شرعيتها شعبية وانتخابية وليست انقلابية أو ثورية كما كان يحلو لهم تسميتها. لذلك فإن هذه الأنظمة عندما واجهت تهديدا لقبضتها الأمنية على الحكم، سعت لاستخدام الجيوش في مواجهة المدنيين ونجحت في ذلك في معظم الحالات لأن تركيبة الجيوش وعلاقتها العضوية أو المنفعية مع الأنظمة جعلتها تلبي نداء الحاكم ولا تستمع لصوت الشعب. هكذا رأينا قوات العقيد القذافي أو بالأحرى كتائبه التي وضعها تحت إمرة أبنائه ترتكب أفظع الجرائم وتقوم بأبشع الممارسات. مما يزيد عن ثلاثين ألف ليبي قتلوا، وضعفهم جرحوا، حسب التقديرات. وفي سوريا تشير إحصاءات منظمات حقوقية إلى سقوط نحو ستة آلاف قتيل في المواجهات بين قوات النظام من جيش وأمن وشبيحة والمحتجين. أما في اليمن فهناك تقارير تذكر أن القتلى أكثر من ألف وخمسمائة والجرحى أزيد من عشرين ألفا، بينما في مصر تتحدث بعض التقديرات عن نحو ألف قتيل وأزيد من ستة آلاف جريح منذ اندلاع الثورة وحتى المصادمات الأخيرة.

قارن هذه الأرقام بالمعلن في إسرائيل عن عدد قتلاها في كل الحروب التي خاضتها منذ إنشائها، إذ يصل إجمالي عدد قتلاها إلى ما يقل قليلا عن 27 ألفا منهم ما يقرب من 23 ألفا من الجنود. بلغة الأرقام فقد حصدت جيوش عربية من أرواح مواطنيها في عام واحد فقط ما يفوق بكثير عدد قتلى إسرائيل في كل حروبها.

هذه الصورة تعكس خللا كبيرا في طبيعة الدور الذي تقوم به أكثرية الجيوش العربية، بتحولها من حامية للوطن أمام المهددات الخارجية إلى حاضنة وحامية للأنظمة الاستبدادية وقامعة للشعوب. لكن للإنصاف لا بد من الإشارة إلى أن هناك قلة قليلة من الجيوش العربية تتصرف بمهنية وانضباط منصرفة لأداء دورها الطبيعي والأساسي في حماية الأوطان والشعوب من المهددات، وتقف بمنأى عن السياسة. وللإنصاف أيضا يجب الإشارة إلى مواقف ضباط وجنود أبوا أن يوجهوا بنادقهم نحو المحتجين وأداروها نحو النظام الذي يطلب منهم ذبح أبناء شعبهم.

قد يقول قائل إن الجيش المصري انحاز إلى الشعب ورفض تنفيذ الأوامر للتدخل وفض الاعتصامات، وإنه بموقفه هذا لعب دورا كبيرا في نجاح الثورة وفي دفع مبارك للتنحي. كذلك فإن الجيش التونسي، وفقا لعدد من الروايات قام أيضا بدور مهم في إنجاح الثورة برفض قائده أوامر التدخل لقمع الاحتجاجات مع قوات الأمن، ثم بالضغط على بن علي للرحيل. هذا صحيح، وقد ثمنه المصريون والتونسيون قبل غيرهم، لكنه لا يلغي حقيقة العلاقة العضوية السابقة بين المؤسستين العسكريتين والنظامين السابقين، والحاجة في البلدين كما في الدول الأخرى إلى ابتعاد الجيوش عن السياسة وتضاريسها، وإلى بقائها مؤسسات قومية مهمتها الأساسية حماية الأوطان وصون ترابها من أي مهددات خارجية. فالغوص في السياسة يصرف الجيوش عن دورها ويلطخ صورتها القومية بوضعها أمام تجاذبات وحسابات السياسة، مثلما حدث في حالة مصر عندما انقلب الترحيب والهتاف بدور المجلس العسكري إلى هتافات تطالب بالرحيل وأصوات تشكك في قراراته وتخوف من نياته. صحيح أن هناك تأييدا أيضا للمجلس العسكري ودوره خصوصا في هذه الفترة الصعبة، لكن المجلس كان في غنى عن كل ذلك لو سارع بالانسحاب من الساحة مسلما السلطة إلى مجلس رئاسي انتقالي وحكومة قومية بالتشاور مع كل القوى السياسية والمدنية، ويبقى هو ضامنا للثورة وحاميا لها إلى حين إجراء الانتخابات وانتقال السلطة إلى حكم منتخب.

هذا الكلام لا يعني التقليل من قيمة الجيوش، بل هو تثمين لدورها الصحيح الذي يبقيها بعيدة عن السياسة، وهذا الدور يحتاج إلى تثبيت لتصحيح مسارات الماضي، ولعل دروس الربيع العربي تكون خطوة في هذا الاتجاه.

[email protected]