هاتولي حبيبي.. يا ناس!!

TT

قرأت حكاية طريفة، ذكرها الكاتب محمد حسنين هيكل في احدى مقالاته، ان اللورد كرومر، المعتمد العام البريطاني في مصر (القنصل العام) إبان الاستعمار، كان مدعواً لإحدى حفلات الزفاف المصرية، مع زعيم ثورة 1919م سعد زغلول، وكان يستمع لأغنية مشهورة للمطرب عبده الحامولي يقول مطلعها «.. حبيبي راح هاتوه لي يا ناس..» دفعه الفضول لمعرفة معنى العبارة، وطلب ترجمتها، عندها علّق مندهشاً قائلاً.. حتى في العشق لا يُكلف المحب خاطره للبحث عن حبيبه، طالبا من الناس ان يجيئوا به اليه!! سواء كانت هذه القصة فيها جانب من الصحة، او كانت ضربا من الخيال، الا انها للأسف تصف طبيعة الفرد العربي، وان موروثاته الثقافية انعكست على مواقفه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وان الشعوب العربية إتكالية، تجيد لغة النواح، حتى تستجدي عطف الآخرين ليهبوا لنجدتها من منطلق نصرة الضعيف، لا من منطلق القناعة بأن لها حقاً ملزماً، يحتم على الآخرين الوقوف معها لاستعادة حقوقها الضائعة. مشكلة العرب الأساسية دوما تجاه قضاياهم، انهم يبدأون من نقطة الوصول، دون ان يكلفوا خاطرهم الانطلاق من نقطة البداية، مفسحين المجال لغيرهم في تجاوزهم، حتى اذا اعلن الحكم نهاية المباراة لصالح منافسيهم، صرخوا وضربوا الأرض بكفوفهم، نادبين حظهم، غير مدركين ولو للحظة انهم هم الذين اضاعوا فرصة الفوز من بين ايديهم، كونهم لم يجتهدوا ليقفوا في صف واحد في مواجهة اعدائهم، ولم يضعوا خطة محكمة للتغلب عليهم!! نعم من حق الشعوب ان تحلم بالسلام، كونه حلماً يتطلع اليه كافة البشر، لكن السلام القائم على العدل. كما ان الحق لا يمكن ان يضيع إذا آمنت الشعوب به، وتشبثت بإرادتها الحديدية من اجل استرجاعه، اما اذا تعودت على التنازل بحجة انها غير قادرة على مواجهة الأعاصير، او التصدي لرياحها، او فقدت ارادة المواجهة، هنا تكون بداية انفلات الخيوط، وسقوط الشعوب في هوة الذل والهوان.

قرأت مقالا مطولا عن سبب تعاطف الشعب الامريكي على طول الخط مع اسرائيل، ويستشف القارئ ان الشعب الامريكي لا يؤيد الباطل، ولا ينحاز لاسرائيل من فراغ، وان هناك حقيقة غائبة عن العالم العربي، وهي ان اسرائيل ادركت اهمية الاعلام وقامت بعمليات غسل مخ للشعب الامريكي، من خلال السيطرة على اعلامه من سينما واذاعة وتلفاز، في تشويه صورة الاسلام والمسلمين، وفي تصديها لكل من تسوّل له نفسه التشكيك في نزاهة الوجود الاسرائيلي، وأضحت حرية الاعلام متاحة للجميع، الا اذا تم تجاوز الخط الاحمر الخاص بنشأة دولة اسرائيل، او رفع احد نبرة التذمر لما يجري في الداخل، هنا تلوّح بالعصا وتهدد بالعقاب، كما حصل مع الكثير من المثقفين الغربيين المعروفين بحيادهم الفكري. كما ان تزوير التاريخ ولي الحقائق وفرضها في المقررات الدراسية الامريكية، المتعلقة بنشوء دولة اسرائيل، ساهم في كسب الرأي العام الامريكي، حيث صورت للأجيال الامريكية المتعاقبة، ان اسرائيل واحة من الديمقراطية وسط مستنقع من التخلف العربي، وانها قامت على ارض قفراء بلا شعب، لقوم بلا وطن، عانى الأمرين من النازية، وان هذه الأرض، لليهود حق تاريخي وديني فيها منذ آلاف السنين. كما انه لا يوجد شيء اسمه فلسطين، وان الشعب الفلسطيني الموجود داخل اسرائيل اليوم، ما هو الا شرذمة نزحت من بلاد الشام، استوطنت اسرائيل، واستحوذ الطمع عليها، وغدت تقوم بعمليات ارهابية فيها على الرغم من ان اسرائيل وشعبها المسالم قدما لها جزءا من ارضه، لكنها ما زالت تطالب بالمزيد. تعدد التحريف يؤدي الى تخريف كما يقولون، وقد صدّق الجميع هذه الادعاءات، وترسخت هذه المفاهيم الخاطئة في فكر الشعب الامريكي، وتوارت الحقيقة تحت التراب، وغابت مع توالي السنين، وتعاقب الاجيال، التي لم تطلع الا على هذه السطور المزيفة من المغالطات الاسرائيلية.

هذه الوقائع المقلوبة، والأكاذيب التي تروجها اسرائيل عن بداية تكوينها، وعن اسباب صراعها مع العالم العربي، اثارها السفير المصري احمد ابو الغيط، مندوب مصر الدائم لدى الامم المتحدة، الذي طالب بكشف الحقائق التاريخية امام شعوب العالم، ووجوب الاستماع للأصوات الاسرائيلية الرافعة صوتها من الداخل، المطالبة بتوضيح الحقائق التاريخية، وتدريس الاجيال الجديدة الكيفية التي قامت عليها دولة اسرائيل، وانها نشأت على هياكل وجماجم القتلى من الشعب الفلسطيني.

الدول العربية المرتبطة بمعاهدات سلام مع اسرائيل، قامت بحذف اسم فلسطين من مناهجها الدراسية، واستبدالها بخريطة اسرائيل، مع هذا ما زال الشارع العربي يرفض التعامل مع هذا الواقع، كونه في اعماقه يئن من حمل هذا الإرث التاريخي الزاخر بالظلم والتجني، ولإيمانه الراسخ ان هذا الكيان الصهيوني قام على انقاض شعب سلبت ارضه وطرد شعبه، على مرأى ومسمع العالم بأسره.

الشيء المثير للدهشة والاستغراب، ان بعض الاصوات الغربية المتعصبة الموالية لاسرائيل، تطالب الدول العربية اليوم بحذف كل ما يؤجج روح العداوة والكراهية لليهود، من مناهجها التاريخية والدينية. شيء مضحك ان يطالب الظالم بالعدل، وهو من أشاع الظلم!! وأمر مثير للسخرية، ان يطالب السارق بعودة الحقوق، والمسروق يسكت على مضض عن حقه المسلوب من منطلق لا حول ولا قوة، بعد ان اضناه السؤال! ووضع يبعث على الاشمئزاز، ان يصر الكاذب على افتراءاته، ويتراجع الصادق عن اقواله بالرغم من صدق نياته.

لقد نجحت مؤخراً المؤسسات الشعبية العربية في مؤتمر ديربان بجنوب افريقيا، في الصاق تهمة العنصرية باسرائيل، وحققت نصرا لم تتمكن من تحقيقه المؤسسات الرسمية، مما يلزم الجميع ان ينشط ويتعاون. ومطالبة امريكا بتغيير مناهجها، وقشع الغمامة عن هذه الحقائق الغائبة عن الوجود العالمي، لتنجلي الحقائق كاملة امام الشعب الامريكي دون تحيّز او مواراة، حتى يقرر في النهاية كل من يملك ضميرا حيا، الوقوف بجانب من .. الحق المسلوب.. أم الواقع الظالم!!