هجرة معاكسة

TT

من الآثار المباشرة لحراك الربيع العربي ازدياد أعداد الهجرة من البلاد التي حصلت فيها الثورات، وإن كان هذا الأمر أقل بكثير من المعدلات التي كانت عليها الأمور قبل اندلاع الثورات.

والهجرة هذه تركزت بشكل أساسي في القارة الأوروبية، وتحديدا إلى إيطاليا وفرنسا وإسبانيا واليونان، ولكن هذه البلدان تحديدا والقارة الأوروبية عموما تشهد حالة حادة من الركود الاقتصادي، وهي حالة مرشحة لأن تستمر لفترة غير قصيرة أبدا.

وفي موضوع «قوى المهاجرين» ومدى تأثيرهم الاقتصادي والسياسي والثقافي في بلاد المهجر التي يختارونها، وفي عالم شديد العولمة قد تتلاشى فيه الحدود وتختفي فيه الحواجز، تبدو مسألة الهجرة عنصرا حيويا لمعرفة مدى تأثير الأمم المهاجرة عالميا.

فالهند وهي إحدى أشهر الأمم المهاجرة، لديها مواطنون في معظم بقاع الأرض، كانوا مواطنين في يوم من الأيام يتبعون حكم دولة بريطانيا العظمى كرعايا لها أينما كان نفوذ هذه الدولة المترامي الأطراف ثم بعد الاستقلال تغير دورهم ليكونوا عنصرا مساندا لدولتهم الجديدة القديمة التي تحاول أن تحقق المعادلة الصعبة من الاستقلال والعزة والكرامة، وهي معايير صعبة جدا في ظل هيمنة متواصلة للقوى الكبرى بأشكال مختلفة ومتنوعة.

واليوم نتاج هذا الحراك الطويل والمهم نرى أذرع الهند الطويلة تمتد حول العالم ثقافيا وماديا واقتصاديا. فمن المدهش أن نكشف أن الهند أنفقت ما يزيد على الأربعين مليار دولار في الاستثمارات الدولية، واليوم نتاج ذلك التطور والجرأة والثقة بالنفس الهائلة أصبحت علامات اقتصادية ذائعة الصيت مثل سيارات الـ«جاغوار» والـ«لاند روفر» والـ«رينج روفر» والـ«ليلاند»، وفنادق مثل الريتز كارلتون في بوسطن والبيير في نيويورك كلها باتت هندية الملكية.

ويأتي أيضا الانتشار المهول للسينما الهندية ودخولها بقوة للأسواق الغربية، حتى بات نجومها بشهرة نجوم الغرب هو أيضا شهادة للهند الجديدة الأكثر ثقة والأكثر جرأة. وما ينطبق على صناعة السينما المعروفة عالميا باسم «بوليوود» ينطبق أيضا على الإصدارات الأدبية الذائعة الصيت التي مكنت الكتاب الهنود من توليد المواهب وتخريج الأفكار، وبات أحد أهم مصادر الدخل لها هو اقتصاد رأس المال البشري الذي أصبح إحدى سمات الهند بامتياز، وباتوا اليوم يتبوأون أهم المناصب الإدارية في أعرق الشركات والمؤسسات والجامعات حول العالم، يتنافسون ويتفوقون على بلدان لها باع طويل جدا وناجح جدا في مجالات متنوعة وعملاقة.

وعلى الرغم من أن الهنود ليسوا بالحالة الوحيدة من هذا النوع حول العالم فيما يتعلق بالنجاحات من أراضي المهجر، فهناك المجاميع الخلاقة مثل اليهود والأرمن والصينيين والبيض (الأنجلوساكسون)، هذه النوعية من الهجرة أوجدت في البلاد التي هاجروا إليها ما يسمى مراكز التميز الاقتصادي؛ الأرمن نجحوا في ذلك في صناعة الذهب والمجوهرات في كل البلاد التي هاجروا إليها، واليهود نجحوا في صناعة الخدمات المالية، كذلك تمكن الصينيون من التألق والتميز في التجارة المنخفضة التكلفة والأثمان، والبيض (الأنجلوساكسون) تمكنوا من التميز في مجالات الصناعات الكبرى والمميزة.

اليوم هناك بروز «لجيوب» عربية في أكثر من موقع جغرافي حول العالم؛ في البرازيل وكندا وأستراليا وأفريقيا والولايات المتحدة وأميركا الوسطى والأرجنتين وجنوب أفريقيا وإندونيسيا وفرنسا وبريطانيا والسويد ونيوزيلندا وبلجيكا والدنمارك والنرويج وإسبانيا وإيطاليا.

وهناك رؤوس أموال مهمة لدى الكثير منهم بحاجة ماسة لإعادة الاستثمار في بلادهم لأسباب اقتصادية أو حتى لأسباب عاطفية بحتة، وكلاهما من الممكن أن يترجم بالإفادة على الدول العربية لو أحسن استغلال ذلك بجد ومهنية وفعالية، لأن التعامل حتى هذه اللحظة مع الملايين من العرب المهاجرة هو تعامل «ودي» غير جاد، لقاءات خجولة ومؤتمرات وعلاقات عامة أو تجاهل تام من دون جدية كافية.

التغني بحالات النجاح والتميز للشخصيات العربية التي حققت الإنجاز في المهجر لم يعد كافيا، والمطلوب اليوم الإعداد لهجرة فكر ومال عكسية، حتى يمكن تحقيق الاستفادة القصوى من النجاح ولا يصبح خبرا يتم تناوله في الصحف أو حديث مجالس فقط.

[email protected]