تجربة أخرى في الديكتاتورية السلالية

TT

إحدى عشرة سنة انقضت على دخول العالم ساحة القرن الحادي والعشرين وتحدياته السياسية والاقتصادية.. والديكتاتوريات المتبقية في هذا العالم تعيش خارج زمانها وأوانها.

ولأن الديكتاتورية، كما يبدو، حالة ذهنية مرضية بقدر ما هي حالة سياسية تسلطية، لم يكن مستغربا أن تستنسخ الديكتاتورية الكورية الشمالية نفسها، بفخر واعتزاز، ليخلف الابن البار الأب الجبار في حكم البلاد بـ«شرعية» يصح نعتها بـ«الجينية»، إن صح اعتبارها «شرعية» بأي مقياس كان.

لماذا الاهتمام بأوضاع كوريا الشمالية وهي في المقلب الآخر من هموم العرب؟

لأن بينها وبين الأنظمة العربية الأوتوقراطية شبها مريب.. رغم بعد المزار.

قد يشكك الكثيرون في مقولة «التاريخ يعيد نفسه». إلا أن الأنظمة الديكتاتورية، إنما كانت، تميل إلى «اجترار» سيرتها الذاتية في ما يصبح تكرارا مملا لصفحات قاتمة في تاريخ البشرية.

وهكذا كان في كوريا الشمالية: النظام يكرر، للمرة الثانية منذ تسلم «العائلة» الحاكمة مقدراته عام 1948، ممارسة لعبة التوارث الديكتاتوري «الجيني» للسلطة بين الأب والابن.

قد تبرر هذه اللعبة تصنيف ديكتاتوريات العالم إلى ديكتاتوريات حزبية (الصين حاليا والاتحاد السوفياتي سابقا) وديكتاتوريات سلالية - عسكرية الجذور في الغالب. إلا أن المؤسف في هذا التصنيف أن ينحصر التنافس على عرش الديكتاتوريات المحض سلالية - بعد انهيار تجربة التوارث العائلي في هايتي بين الأب «بابادوك» ديفالييه وابنه «بيبي دوك» جان كلود - بين كوريا الشمالية.. والأنظمة العربية الأوتوقراطية فحسب.

في هذا السياق، يجوز الاستنتاج بأنه لو لم يقض «الربيع العربي» على الطموحات العائلية للحكام العسكريين العرب لكان العالم العربي يضج اليوم بأنظمة «الأبناء» - أبناء ديكتاتوريي القرن الماضي بدءا بالعراق وانتهاء بليبيا.. ومرورا، طبعا، بمصر.

سليل الديكتاتورية الكورية الشمالية، كيم جونغ أون، ليس وحيد عصره في القفز فوق التراتبية الحزبية في بلده والقبض على زمام السلطة لمجرد كونه «ابن أبيه». مع ذلك، قد يحز في نفسه أن «الربيع العربي» حرمه من رفاق دربه في الشرق الأوسط.

ورغم أن الفارق الوحيد بين الديكتاتورية الحزبية والديكتاتورية السلالية تقتصر على البعد الإجرائي في عملية «نقل» الديكتاتورية، فإن تفضيل الديكتاتوريين العرب للنمط «السلالي» قد يعود إلى الطابع الرعوي للمجتمع العربي، مما يجعل الشعار الشائع عربيا: «الله والوطن والعائلة» مجحفا في وضعه الولاء للوطن قبل الولاء للعائلة (والعشيرة عمليا). على هذا الصعيد، لا يبدو المجتمع الكوري مختلفا عن المجتمع العربي. ولكن، رغم غياب التأثير المباشر «للربيع العربي» على الوضع في كوريا الشمالية، يبقى التساؤل واردا: إلى متى سينعم ديكتاتور بيونغ يانغ الجديد بالوراثة السلالية للسلطة بعد أن حسم «الربيع العربي» - في ما خلا استثناء واحدا - مصير الديكتاتوريات السلالية في القرن الحادي والعشرين وتركه وحيدا في صف مدعي الشرعية الديكتاتورية «الجينية»؟ لا جدال في أن السجن الكبير الذي يقبع الشعب الكوري الشمالي بين جدرانه منذ أربعينات القرن الماضي يفرض على أذهان السواد الأعظم من شعبه وضعا أشبه بوضع «أهل الكهف»، بينما ترسانة كوريا الشمالية النووية قد تساعد الديكتاتور الابن على مواصلة لعبة التوازنات الإقليمية التي مارسها الديكتاتور الأب وتوظيفها للمحافظة على نظامه.

ولكن الثورة الإعلامية التكنولوجية لن تبقي الكوريين الشماليين بمنأى عن رياح التغيير وتحديدا عما يحققه أبناء جلدتهم في كوريا الجنوبية من بحبوحة معيشية وتقدم تكنولوجي وصناعي - علما بأن أشرطة الـ«دي في دي» المهربة بكثرة من الجنوب إلى الشمال تكشف باطراد زيف الادعاءات الشمالية الرسمية عن معاناة شعب كوريا الجنوبية من الفقر والجوع.

لذلك، قد لا يكون من المبالغة بشيء أن يكرر التاريخ نفسه ويدفع الكوريتين إلى الوحدة على غرار ما فعل مع ألمانيا الغربية والشرقية عام 1990.