«الرأي العام»: متى يحترَم؟.. ومتى لا يحترَم؟

TT

كان تمام مقال الأسبوع الماضي – عن الرأي العام - أن هذا الرأي العام يمكن أن يتحول إلى سلطة مستبدة يُخشى جانبها، ويُجارى هواها، كما يمكن أن يُتلاعَب بهذا الرأي العام في مجالات كثيرة: من الإعلان إلى السياسة وما بينهما من مجالات.. وعن هذا التلاعب يقول هربرت شيللر في كتابه (المتلاعبون عيون بالعقول).. يقول: «إن تضليل العقول – على حد قول باولو فرير – (أداة للقهر). إنه يمثل إحدى الأدوات التي تسعى النخبة من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة. وليس من المستغرب أن يبلغ التضليل الإعلامي للرأي العام، بوصفه أداة للهيمنة، أعلى درجات تطوره في الولايات المتحدة.. ولكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفعالية أكبر لا بد من إخفاء شواهد وجوده، أي إن التضليل الإعلامي يكون ناجحا عندما يشعر المضلَّلون (بالبناء للمجهول) بأن الأشياء هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية.. نعم. إن التضليل الإعلامي يقتضي واقعا زائفا هو: الإنكار المستمر لوجوده أصلا».

ومع التوكيد على أن ما ذكره شيللر واقع قائم، إلا أن ذلك لا يعني – قط – أن كل رأي عام هو مزيف بالضرورة.. صحيح: أن هناك خبراء في السياسة والإعلام ينكرون وجود رأي عام أصلا. سواء كان رأيا عاما (وطنيا) أو رأيا عاما (عالميا).. وخير من الإنكار المطلق: القول بأن الرأي العام يمكن أن (يُصنع) وأن يُضلَّل من خلال تكوينه وصناعته واستمالته إلى هذا الاتجاه أو ذاك. بيد أن هذا، وإن شَكَّك في سلامته، فإنه لا ينفي وجوده.

ومن تعريفات الرأي العام: «اتفاق أو تواطؤ مجموعة من الناس – ذات اعتبار كمي عددي – على قدر مشترك من الإيمان بمنظومة مبادئ وقيم».. وهذا هو ما يمكن تسميته (الرأي العام الثابت). وهناك (رأي عام متغير) وهو اتفاق آراء مجموعة كبيرة من الناس على (قضايا معينة) تتعلق بالمعايش والصحة والتعليم والمصالح المرسلة، بوجه عام. فهذا النوع من القضايا يحتمل الاتفاق في زمن معين، كما يحتمل الاختلاف في زمن آخر. ولذا سمي (رأي عام متغير أو متحول).

والمثل المضروب – هنا – هو: أنه قبل عقود كانت (الاشتراكية) هي (العملة الرائجة) في منطقتنا هذه. إذ كان الإعلام السياسي الاشتراكي (الموجّه) يحشد الجماهير ويعبئها بفوائد الاشتراكية ومغانمها الهائلة!. وفعلا تكوّن رأي عام مؤيد لهذا المصطلح بحماسة، إلى حد أن شرائح من المثقفين والدعاة وعلماء الدين كانت تخجل من وصمها بمعاداة الاشتراكية، والتخلف عن ركبها التنويري!! بل رأينا مؤلفات عديدة لعلماء ومفكرين دينيين وقد أخذت عناوين مثل (فلسفة الاشتراكية في الإسلام).. (اشتراكية الإسلام).. (اشتراكية أبي ذر)، وإذ تدل هذه الهرولة العامة نحو الاشتراكية على قوة ضغط الرأي العام لحد مداهنته، تدل – من زاوية أخرى – على (تغيّر) هذا النوع من الرأي العام. فلو دعا اليوم داع إلى الاشتراكية لقوبل بالاشمئزاز والرفض من الرأي العام نفسه.

على أنه لن يكتمل الموضوع – منهجيا – حتى نجتلي المنهج الصحيح المتوازن في قضية الرأي العام، وهي قضية من صميم (منهج الإعلام) الذي ندرّسه لطلابنا.

إن الاستخفاف بالناس وبآرائهم السياسية ليس من منهج الإسلام قط:

أولا: لأن الإسلام يبني خطابه على أساس (كرامة) الإنسان الفرد واحترامه. فالإنسان الفرد هو المخاطب بشرائع الإسلام: تلقيا وممارسة ومسؤولية.. ومن ثم فهذه الشرائع لا تخاطب كائنا هامشيا مهملا، وإنما تخاطب إنسانا كريما معتبرا.

ثانيا: أن الناس – كمجموع – لهم قيمتهم واعتبارهم من حيث إن قيمة الفرد مضروبة في عشرة أو مائة أو ألف أو مليون.

لذا، فإن الرأي العام معتبر في منهج الإسلام من حيث الأصل، ما دام رأيا عاما مستنيرا ذا معايير سليمة ومعقولة، ولكن – بصراحة – لا قيمة لرأي عام قائم على الجهالة، والغوغائية، لا قيمة لرأي عام فاسد المعايير والذوق.

ويمكن تأصيل ذلك بالمنهج التالي:

1) تَرَكَ النبي صلى الله عليه وسلم عقاب من يستحق العقاب: حذرا من إحداث بلبلة في الرأي العام. فقد طُلب من النبي أن يحكم بالقتل على كبير المنافقين في المدينة، ذلك الرجل الكريه الشرير الذي آذى النبي والمسلمين أجمعين. فكان رد النبي على الطلب «لا.. حتى لا تتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».. وعبارة «لا تتحدث الناس» يمكن ترجمتها عصريا بـ(لا يتحدث الرأي العام). فهذا المنافق هو من أصحاب النبي – في الظاهر – فإذا حكم النبي بقتله دون أن يعلن كفره قال الناس: إن محمدا يقتل أصحابه!!. وهذه فتنة للرأي العام.. من ناحية أخرى: لا يستطيع النبي أن يعلن كفر هذا المنافق المؤذي، ذلك أن المنهج يمنع النبي من ذلك. فمن تعريفات المنافق أنه هو (الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر).. والكفر حالة (قلبية) – ها هنا -. والعليم بذات الصدور هو الله وحده لا شريك له في ذلك، ولو كان نبيا رسولا.

2) تَرَكَ النبي ما ينبغي فعله من مصلحة ظاهرة راجحة، حذرا من اضطراب الرأي العام وفتنته. فقد قال لعائشة: «لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة وألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين.. الحديث».. فإعادة بناء الكعبة مشروع وفيه مصلحة، بيد أن النبي ترك ذلك، تقديرا لحالة الرأي العام الذي قد لا يستسيغ هذا العمل ولا يحتمله فهمه لقرب عهده بجاهلية وشرك.

وبالنسبة لعدم الاكتراث بالرأي العام:

أ) إن الرأي العام لا يجامل ولا يداهن – قط – في القضية الكبرى الفاصلة، قضية توحيد الله جل ثناؤه. أجل.. لا يجامل الرأي العام في (التوحيد) ولو كان عدده 7 (سبعة) مليارات إنسان هم سكان كوكب الأرض الآن: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

ب) ولا مجاملة ولا مداهنة للرأي العام في أمر التشريع. فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإبطال (عادة التبني) عند العرب: (أن يكون الرجل أبا لولد ليس من صلبه)، وكُلف أن يفعل ذلك من دون أن يخشى الناس أو ضغط الرأي العام الذي أَلِف هذه العادة وأطبق عليها دهرا «وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ».

في ضوء هذا، هل يمكن أن يتحول الرأي العام العربي تجاه ما سمي بالربيع العربي؟ نعم، يمكن أن يحصل هذا التحول من حيث إن الربيع العربي (مجرد موجة في الزمن) قد تهمد أو تتكسر عند شاطئ الصعاب والتحديات، أو عندما تأتي موجة أعلى منها وأقوى (فأبواب السيناريوهات لا تزال مفتوحة).. أو عندما تفشل تيارات الربيع في تحقيق تطلعات الذين هتفوا لها.. أو عندما تفسد كما فسد الذين من قبلها.. أو عندما تمنح (قداسة) من لدن رأي عام غير عصي على التضليل: قداسة تحول دون نقدها وتصويبها. فأول الوهن: تقديس ما ليس مقدسا.