وضع الحصان أمام العربة

TT

منذ عام بدأت «الثورتان» التونسية فالمصرية ولا تزالان في فصلهما الأول.

وضعت «أقواس الاقتباس» متعمدا لأنها تعني صحافيا نقل الكلمات عن مصدر، أو تحفظ الكاتب على المعنى الدارج للكلمة، والخيار الأخير هو المقصود هنا.

الوضع يبدو أفضل في تونس من حاله في مصر لاستقرارها الظاهر، ولتواضع الطموح السياسي لعسكرها فبقوا في الثكنات مكتفين بأداء وظيفتهم الأساسية وهي الدفاع عن الأمة. وفي مصر رغم التخلص من الرأس الرمزي (الرئيس المخلوع حسني مبارك) لم يتغير النظام المستمر منذ الانقلاب العسكري في 1952 الذي يرفض الجيش الاعتراف بغير «شرعيته».

«الثورتان» ناقصتان في غياب دساتير ترسم معالم الدولة ومؤسساتها وعلاقتها بالحكومة وطريقة تداول السلطة؛ فكيف تتحرك عربة بلا حصان أمامها؟

الثورات التي بدأت عفوا، استولت عليها تيارات وجماعات حطمت آمال الشعوب وبنت فوق جثث الشهداء أنظمة أسوأ من التي تسببت في الثورة. الاستثناء كان الإنجليز لبرودة أعصابهم وعقلانية تقبلهم للاقتناع بالجدل المنطقي، فكانوا الأسرع في تعلم درس ثورتهم (1640 - 1660) مديرين ظهورهم لحماقة النظام الجمهوري واستدعوا ولي العهد من منفاه ليتوج تشارلز الثاني، أمام مجلس لوردات يسمو فوق التناحر الانتخابي الحزبي ليضبط استقرار أعرق ديمقراطية عرفها التاريخ تضع حرية الفرد وحقوقه قبل أية مقدسات.

الفرنسيون عاطفيون انفعاليون؛ فكانت ثورتهم (1789 - 1799) دموية وحشية استولى عليها اليعاقبة، لتحز مقصلة روبسبير في عام 1793 - 94 وحده نحو 40 ألف رأس، ومضت عقود من الحروب والمتاعب قبل ظهور «الجمهورية الديمقراطية» بتناقضات قوانين غالبا ما تكبل حرية الفرد مقارنة بنظيره البريطاني.

في روسيا ضحى البسطاء لإشعال ثورة فبراير (شباط) 1917 فاستولى عليها البلاشفة في أكتوبر (تشرين الأول) مؤسسو الدولة البوليسية الشيوعية التي سحقت الفرد ولم تنتفض روسيا إلا بعد سبعين عاما، من الإفلاس والفقر ولا تزال تجاهد لقطع أوصال فساد بقايا النظام البلشفي.

الثورة الإيرانية التي كان وقودها الطلاب والحركات العمالية ومثقفو الطبقة الوسطى، استولى عليها المشعوذون القادمون من بعيد ليغطوا حضارة عريقة بعباءة ظلام القرون الوسطي فدفعوا بأكثر خصوم الشاه عداوة إلى تمني عودة نظامه.

ملامح الحكم في تونس لم تتضح بعد والكثيرون (خاصة النساء والمشتغلين بالسياحة) يحبسون أنفاسهم ترقبا. في مصر، غير القادر على نقل استثماراته وعمله خارج البلاد بدأ يخزن صناديق الشموع تحسبا لعصر ظلام (ربما تحرم فيه بدعة المصابيح بالبطارية!) متوقع بعد استكمال انتخابات غارقة في رمال سياسية متحركة. فالأقدام تاهت في طريق تتناقض وتتعاكس لافتات أو إشارات المرور فيه. فطريقة إجراء الانتخابات انتهكت القانون الذي ينظمها حسب المادة الرابعة من دستور مؤقت يمنع تأسيس الأحزاب الدينية وخوضها الانتخابات.

تخيل؛ فتحية تتنكر بمعطف وطربوش زوجها وتمحو التاء من بطاقتها لتقتحم، كفتحي، حمام الرجال بدل انتظار دورها في طابور حمام النساء. الجماعات الدينية استبدلت حجاب الحاجة فتحية بطربوش فتحي أفندي وأظهرت بطاقته لمنظم طابور يقدس الواقفين في الدين لتفوز بأغلبية مقاعد «البرلمان».

أكثر ما يخمد تفاؤلي بتطور ديمقراطي في العام الثاني لشبه الثورات التي سماها البعض «الربيع العربي» بببغائية مضحكة في بليتها، هي ضحالة فهم المثقفين للديمقراطية التي ينادون بها لأكثر من ربع قرن فخلطوا بينها وبين العملية الانتخابية.

ذاكرتي فقدت عدد مرات تكرار ما كتبته في هذه الصحيفة بأن أكثرية المثقفين والمراقبين المصريين والعرب يتصورون أن الديمقراطية تبدأ وتنتهي بالتصويت في صناديق الاقتراع وكفى الله المؤمنين شر القتال. فالانتخابات مجرد مسمار أو صامولة واحدة ضمن مئات الروافع والصواميل والمسامير والتروس والأزرار وألواح التوجيه - التي تتطور وتتغير باستمرار أبدي - في آلة الديمقراطية الضخمة المعقدة التركيب والتشغيل.

يكتمل العام على «ثورة» اللوتس (25 يناير) ونرى أعاجيب تعجز شهرزاد عن محاكاتها في عشرة آلاف ليلة وليلة. كإجراء انتخابات لتشكيل حكومة قبل تحديد ملامح الدولة واختيار رأسها (هل سمعت بمن ينفق ماله في شراء عسل لا يملك إناء يضعه فيه؟) وقبل صياغة دستور يحدد قواعد اللعبة. فهل سمعنا بتشكيل فريق رياضي قبل معرفة نوع لعبة التباري، أهي الكريكيت أم الرغبي؟

الأعجوبة الأخرى انتخاب مجلس الشورى. أهي نسخة كربونية من مجلس الشعب المنتخب للمهام البرلمانية أم عادة الإسراف المصرية بشعار «زيادة الخير خيرين»؟

بريطانيا، أعرق الديمقراطيات لا تنتخب سوى مجلس العموم، أما الشيوخ (اللوردات) فيمثل حكماء الأمة لأكثر من 800 عام. وأكثر المنظمات ديمقراطية (كليبرتي مثلا) تحذر من دعوة اليسار المدمرة لانتخاب أكثريته.

وأتوسل للمصريين أن يقتنعوا، ولو مرة، بأنهم ليسوا أكثر «فهلوة» من الإنجليز. فليرتفعوا بمجلس الشورى إلى ما هو أسمى من التنافس الانتخابي ليكون مجلس حكماء الأمة المصرية من فقهاء الأزهر وأساقفة الكنيسة القبطية وزعماء بقية الأديان وكبار الأطباء والمهنيين والقانونيين والعسكريين المتقاعدين - من الجنسين - ليس بينهم حزبيون، ويحرم ترشيحهم للرئاسة أو الوزارة. مجلس مستقل كضابط لاحتمال استغلال الحكومة أغلبيتها البرلمانية فتستميل تيارات غوغائية بتشريعات أو تغيير قوانين تصفق لها الجماهير على حساب الاقتصاد ومصلحة الأمة على المدى الطويل.

فديمومة التوازنات والضوابط checks and balances، والفصل بين السلطات ورقابة صحافة حرة لا تنظمها قوانين تصدرها أغلبية حزبية بطبيعتها، أهم للديمقراطية من انتخابات تجرى كل بضع سنوات.

فلتكن الشورى بين التيارات الوطنية المصرية، تحت إشراف نادي القضاة المستقل، هي الأصل في تسمية الشيوخ بمجلس الشورى (لا هيئة تضرب باستشارتها عرض الحائط) تمثل فيه كل طوائف الأمة المصرية ليكون ضميرها الدائم.

ويتضمن المجلس تسعة (أو 11) من شيوخ القضاء (بلا رجال دين) لتأسيس محكمة الشورى السامية كأعلى سلطة قضائية ودستورية فوق المحاكم والمؤسسات ومستقلة عن الدولة ورئيسها، عن الكنيسة القبطية والأزهر. محكمة يدلي أمامها رئيس الدولة بقسم الولاء لمصر واحترام الدستور، هو ورئيس الوزراء. وقضاة الشورى يناقشون مع اللجنة القانونية الدستورية التعديلات المقترحة (الدساتير الديمقراطية متغيرة باستمرار) ويصدقون على تشريعات مجلس الشعب قبل توقيع رئيس الدولة، أو يعدلون ما يجدون فيه من تناقضات قانونية ليعيدوها لمجلس الشعب لإعادة مناقشتها. عضوية محكمة الشورى السامية مدى الحياة وتختار ذاتيا شيخا عضوا جديدا عند وفاة أو عجز أحد أعضائها باستقلال كامل. عندئذ فقط يكون لمجلس الشورى فائدة كحكم يحدد قواعد اللعبة الديمقراطية ويراقب تطورها ويضع الحصان أمام العربة المصرية.