الحرب الإيرانية الباردة

TT

أطلق وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو قبل توجهه لطهران تحذيرا من «حرب باردة طائفية» مؤكدا أن «تداعيات حرب كهذه ستستمر عقودا»، ثم قال إن بلاده «ضد كل الاستقطابات بمعناها السياسي بين إيران والعرب وبمعنى تشكيل محور» («الشرق الأوسط» 5 يناير 2012).

التصريحات الدبلوماسية في المنطقة تكتسب أثرا أكبر حين تتجه للتصريح أكثر من التلميح، وحين تقوم بتسمية الأشياء بمسمياتها، لأن وضوح سياسات ومواقف دول المنطقة ودول العالم تجاه ما يجري في الشرق الأوسط شديد الأهمية في لحظة تاريخية يعتورها الكثير من الضبابية.

أوغلو يحذر من حرب باردة طائفية ولكنه ربما من دافع حرصه على مصالح تركيا مع إيران يتناسى أن هذه الحرب قائمة بالفعل منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران وتأكيدها على مبدأ «تصدير الثورة» والتركيز في توجه هذا التصدير ليس على حدودها الشرقية حيث باكستان - وإن كان لها دور في أفغانستان - ولا موجها لحدودها الشمالية حيث دول آسيا الوسطى كتركمانستان وأذربيجان وأرمينيا وتركيا ولكنه منصب بالدرجة الأولى على دول الخليج العربي والدول العربية.

لئن كانت دول الخليج لم تبتدئ إيران بالخصومة، فإنها - كذلك - لم تعتد في الرد وحاولت دائما الحفاظ على علاقات أكثر هدوءا مع إيران، ولكنها في ظل استمرار السياسات الإيرانية للتدخل في شؤونها الداخلية عبر احتلال عسكري لجزر الإمارات وعبر تصريحات معادية لمملكة البحرين وتدخلات في شأنها الداخلي وعبر تحريك بعض أتباعها في المنطقة الشرقية بالسعودية وعبر نشر شبكات التجسس في الكويت، فإنها أمام كل هذه التدخلات الإيرانية التي لا يمكن وصفها إلا بالعدائية مضطرة لاستخدام أبسط حقوقها وهو اتخاذ سياسات ومواقف تدافع بها عن نفسها وعن استقرار دولها.

كان الخميني يسعى لتصدير الثورة بقوة السلاح وبعمليات التفجير وبدعم جماعات شيعية في الخليج تقوم بعمليات تخريبية، ثم جاء خامنئي وحافظ على تصدير الثورة ولكن بأساليب أكثر دهاء وصبرا، وهو وإن تخلى عن فكرة تصدير الثورة بقوة السلاح بعدما تجرع سلفه السم، فإنه قد ابتكر طرقا أخرى لتصدير الثورة تقوم ببساطة على زرع وبناء جماعات وأحزاب دينية وسياسية تمحض إيران الثورة الإسلامية الولاء وتعمل بكفاءة داخل دول عربية لا ترى إيران في استباحة سيادتها أي تدخل عدائي، وترى من منظار سياساتها التوسعية أن هذا التدخل حق طبيعي لها لبسط نفوذها في المنطقة.

في العراق «حزب الدعوة» و«تكتل دولة القانون» و«التيار الصدري» وغيرها أصغر منها، كلها تابعة لإيران خاضعة لسياساتها وتوجيهاتها، وفي لبنان قصة حزب الله الإيراني أشهر من التذكير بها، وفي فلسطين وإن لم تبن إيران حركة حماس فقد استغلتها واستتبعتها في مشروعها الكبير وحربها الباردة ضد العرب، وفي اليمن دعمت الحوثيين لتشغب بهم على السعودية واليمن وقصتهم كذلك معروفة، وقد سعت جهدها في مصر عبر علاقات مميزة مع جماعة الإخوان المسلمين.

في العراق واليمن وأفغانستان تحالفت مع تنظيم القاعدة، فآوت قياداته وعناصره، ودعمت الجماعات التابعة له في كل تلك البلدان، واستخدمتها ولم تزل ورقة سياسية في التفاوض مع الغرب.

ضمن هذا التوجه، استفادت إيران كثيرا مما يسمى «التشيع السياسي» وهو ما يعني الولاء التام لسياسات إيران الثورة الإسلامية من قبل جماعات وأفراد لا ينتمون للطائفة الشيعية، وقد حدث هذا في مصر واليمن والمغرب، كما في بعض الدول المذكورة آنفا.

كل هذه الحرب الإيرانية الباردة الموجهة تحديدا ضد العرب والدول العربية كانت تسوقها وتروج لها ماكينة الدعاية الإيرانية تحت شعار «المقاومة والممانعة» وهو الشعار الذي أسفرت الأحداث العربية الأخيرة خاصة في سوريا عن أنه لم يكن سوى أكذوبة كبرى.

هذه الحرب الإيرانية الباردة ليست تكتيكا سياسيا ولكنها استراتيجية ثابتة في السياسة الخارجية لإيران الثورة الإسلامية، منصوص عليها في دستورها، فقد جاء في «دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية» الذي نشرته رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية بإيران ص12 «إن الدستور يعد الظروف لاستمرارية هذه الثورة داخل البلاد وخارجها»، وتحت عنوان «الجيش العقائدي» يقول الدستور ص16: «ولا تلتزم هذه القوات المسلحة بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل أيضا أعباء رسالتها الإلهية، وهي الجهاد في سبيل الله، والنضال من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي في العالم».

الجديد في المشهد اليوم هو أن إيران تمر بأصعب أوقاتها، أزمة اقتصادية خانقة تزيدها العقوبات الدولية قوة وأثرا خاصة على الداخل الإيراني، وهي تحاول الاستعانة باقتصاد العراق الآخذ في النمو للاستفادة منه في جهتين: تخفيف أزمتها الاقتصادية الداخلية ودعم أكبر حلفائها في المنطقة وهو نظام الأسد ذلك الذي يشهد بدوره أخطر أزمة في تاريخه، وهو مهدد جديا بالسقوط، ومن هنا يمكن فهم تحول نوري المالكي رئيس الحكومة العراقية من اتهام نظام الأسد بدعم تفجيرات إرهابية ومطالبته بمحكمة دولية في 2009 (البعث السوري: 156) إلى أن أصبح مدافعا وداعما لذات النظام في 2011.

إن الدور السياسي الجديد الذي بات يلعبه «مجلس التعاون الخليجي» وقياداته للموقف العربي من خلال الجامعة العربية في ليبيا واليمن وأخيرا سوريا يخيف إيران، ويشعرها بأن الحرب الباردة لا يمكن أن تكون ذات اتجاه واحد.

الأمر الآخر الذي يخيف إيران هو أنه في ظل أزمة اقتصادية خانقة في إيران فإن دول الخليج وعلى العكس تشهد انتعاشا في اقتصادياتها وهي تتجه لمزيد من القوة الاقتصادية والسياسية حين يتم تفعيل دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز دول مجلس التعاون للانتقال من «التعاون» إلى «الاتحاد».

حين نرصد ونستحضر سياسات إيران تجاه الخليج العربي والدول العربية، فإن على المراقب والمتابع وعلى صانع القرار أن يقارن ما تفعله إيران بما جاء في تعريف الحرب الباردة من أنها «تعبير أطلق على حالة التوتر بين الشرق والغرب في أعقاب الحرب العالمية الثانية حتى 1989 - 1990 تُستخدم في هذه الحرب - باستثناء السلاح بشكل مباشر - جميع وسائل الصراع كالدعاية والاتهامات والاستفزازات والتهديد والمناورات العسكرية». (معجم المصطلحات السياسية والدولية)