مع الشباب في الجماعة أتكلم

TT

المقصود بكلمة الجماعة هنا هو جماعة الإخوان المسلمين المصرية. والتكلم مع شبابها ربما يعني أن الكاتب ما زال يحمل أملا فيهم، أو تفكيرا بالتمني، أو ربما كان حديثه معهم بدافع من يأسه من إمكانية التغيير في آليات التفكير عند قادتهم. ولكي لا تذهب بك أو بهم الظنون كل مذهب، أجد من الضروري أن أوضح هنا ما يعرفه كل من قرأني باهتمام من قبل، وهو أنني ضد عمل الجماعات الدينية بالسياسة، وأرى أنه من المستحيل على الجماعة الدينية في بلادنا وبلاد غيرنا، طبقا لخبرات الحاضر والماضي القريب، أن تخرج من جلدها كجماعة.

وحتى عندما ترغم على التعامل مع الشعب بعد أن تصل إلى حكمه عبر إجراءات ديمقراطية، فهي تتعامل معه بوصفه أعضاء في الجماعة عليهم أن يلتزموا بقانونها الأساسي وهو السمع والطاعة. لكن الجماعة في مصر، حمدا لله، ليس مسموحا لها، طبقا للدستور أو تعديلاته المتعددة، أن تخوض المعركة الانتخابية كما هي جماعة دينية، الذي خاضها ونجح فيها بامتياز هو حزب الحرية والعدالة. بعض المناوئين والمعاندين - كما سماهم المرشد العام – لا يعترفون بهذا الحزب ولا يعترفون بشرعية المقاعد التي حصل عليها في مجلس الشعب، ويقولون - ساء ما يقولون - إنه ليس أكثر من تشكيل أو مكتب سياسي تابع للجماعة. وأنا لست منهم؛ لأنني على يقين من أن هذه النظرة تفتح الباب في مصر على مصراعيه للفوضى، بينما هو ما زال مواربا حتى الآن. هو حزب، وأنا أطالبه، وأطالبكم أيضا، بالعمل على أن يكون حزبا سياسيا يعمل طبقا لآليات العمل الحزبي في العالم كله. لكن من الواضح لي أن الناس، حتى الآن في مصر، ترى أن المرشد العام هو المسؤول الأول والأخير عن الإخوان، حزبا وجماعة؛ لذلك رأينا أن نقيب الفنانين، الصديق القديم الأستاذ أشرف عبد الغفور، لم يذهب لرئيس الحزب أو هيئته العليا، بل ذهب ليتكلم عن الفن مع الأستاذ المرشد.

في جمل قصيرة وقوية شرح الأستاذ المرشد منهج الجماعة كما كان يراه المرحوم الشيخ حسن البنا، مؤسس الجماعة: «لقد حدد الإمام لتلك الغاية العظمى أهدافا مرحلية ووسائل تفصيلية تبدأ بإصلاح الفرد ثم بناء الأسرة ثم إقامة المجتمع ثم الحكومة، فالخلافة الراشدة، فأستاذية العالم». في ذلك الوقت البعيد كانت الأفكار في العالم كله في جميع الاتجاهات تتعامل مع أحلام البشر وأوهامهم وتعدهم بالقوة المطلقة وتحقيق الخير الأسمى، من أجل الوصول إلى جنة على الأرض، كما في المثال الشيوعي، أو بالسيادة على بقية البشر، كما في الأفكار القومية النازية. هي، كما ترى، أفكار عامة تغذي الفرد والجماعة بأحلام الصلاح والنقاء والسيادة.

لقد حوت هذه العبارة، القصيرة القوية المغرية بالتصديق، كل أخطاء المنطق الصوري العاجز عن استقراء الواقع للتعرف على الأخطاء التي تمنع تنفيذ ما تعد به العبارة نفسها. إن أخطر ما في هذه العبارة هو اليقين الشديد بالمنهج، ثم غياب التواضع الضروري عند فهم أي فكرة أو طرحها. كل المعاني العامة على وجه الأرض العاجزة عن التحقق، هي مجرد حروف مرصوصة بجوار بعضها البعض تسكت صرخات الجوع بغير أن تملأ المعدة. تأمل جيدا جملة «إصلاح الفرد».. هل تفهم منها شيئا؟

أنا أفهمك عندما تقول إنك ذاهب إلى الميكانيكي لإصلاح سيارتك، لكني عاجز عن فهم أن حزبا ما سيصلحك. أنا أفهمك عندما تقول: «حكومتنا اتفقت مع عدد من شركات إصلاح الأراضي لإصلاح واستزراع مائة ألف فدان من الصحراء في المنطقة الفلانية»، غير أنني أعجز عن فهمك عندما تقول إنك قررت «إصلاح البشر».. البشر على الأرض في عصرنا هذا لا يستسيغون الأفكار العامة - وإن كنت أعترف أنها قادرة على خداع عدد كبير منهم - ويفضلون معرفة الأرقام والمساحات والمراحل الزمنية، والمبالغ المطلوبة لتحقيق مشروع ما.

كيف ستصلح الفرد؟ أي فرد؟ في أي طبقة؟ ماذا ستصلح فيه: صحته أم ميزانيته، أم ستوفر له شروطا أفضل في العمل؟ وما هي؟ وما السبيل لتحقيق ذلك؟ هل ستنشئ وزارة اسمها وزارة إصلاح الأفراد تتولى إصلاح الفرد بمعزل عن مجتمعه وإمكانات هذا المجتمع؟ وما آليات عملها؟ هل سيمشي مسؤولوها في الشوارع والحواري والقرى والنجوع صائحين: نصلح الأفراد؟

التفكير المنطقي الطبيعي، وليس الصوري، يحتم أن تبدأ بحكومة صالحة فتشيع الصلاح في المجتمع ككل، أفراده وأسره وأطفاله. لكن قبل ذلك كله عليك أن تجيب عن سؤال إجباري: كيف تتصور الإصلاح والصلاح؟ أي شارع اقتصادي وسياسي ستمشي فيه، الاقتصاد المخطط وهندسة البشر من أعلى، أم الاقتصاد الحر مع دولة قوية قادرة على إرغام الناس على احترام القانون وعدم التهام بعضهم البعض؟

نأتي الآن إلى حكاية الخلافة. هل أنتم يا شباب الجماعة والحزب، حتى لو كانا شيئا واحدا، في حاجة إلى خليفة؟ أصارحكم بأنني وكل من أعرفهم ليسوا في حاجة إليه، فهل أنتم حقا في حاجة إلى خليفة في عصر لا يعرف الخلفاء، راشدين كانوا أو غير راشدين. اسمحوا لي أن أقول: إن اختراع الآمال مستحيلة التحقق ظاهرة معروفة، يكون الهدف منها عادة هو رفض صاحبها الاعتراف بأنه عاجز عن تحقيق أي هدف واقعي قابل بالجهد الشاق للتجسد على الأرض واقعا مفيدا ومثمرا.

نأتي الآن للحديث عن «أستاذية العالم».. ماذا تعني هذه الجملة التي يمكن وصفها بحق بأنها جملة طريفة؟ لا بد أنكم جميعا تعرفون تلك الطرفة القديمة عن ذلك الرجل الذي فشل فشلا معيبا في حمل عنزة كُلف بحملها، فقال لمن حوله في ثقة: «أصل أنا ماليش إلا في شيل الجمال». المرشد العام يتكلم عن رغبته في وصول المصريين - تحت حكم الجماعة - إلى أستاذية العالم، بغير أن يوضح لنا مجالات وميادين هذه الأستاذية. على العموم أنا أطمئنكم إلى أننا قد وصلنا لها بالفعل في ميدان واحد هو الأستاذية في علم الكلمات التي لا معنى لها. التواضع ليس فضيلة فقط، التواضع في العمل السياسي بالتحديد ضرورة؛ ففي غياب التواضع نحن نعجز حتما عن رؤية واقعنا كما هو عليه، وبالتالي نعجز عن تغييره إلى الأفضل.

أنا شخصيا لست منشغلا بقضية أن يكون المصريون أساتذة لهذا العالم، على الأقل لأنهم كانوا كذلك منذ عدة آلاف من السنين، ولا أعتقد أن السيد المرشد يريد العودة لهذا العصر. أنا فقط أحلم بأن يكونوا تلامذة جيدين في هذا العالم، أن يحاولوا بأقصى جهد أن يكونوا منافسين لبقية تلاميذ الدنيا. إنني أتمنى لكم يا شباب الحزب والجماعة قدرا من التواضع يجعلكم قادرين على فهم أنه لا شيء يميزنا عن بقية البشر، وأننا مطالبون، مثل بقية البشر، بالعمل الشاق على حب الحياة وحمايتها من التعصب والكراهية، فإلى أن أموت سأظل معتقدا أن الله، سبحانه وتعالى، خلق لنا الحياة وخلقنا فيها لتكون ممتعة لنا أكثر وأكثر.