محنة العراق.. أرض لم تتحول إلى وطن

TT

محنة العراق محنة كبيرة وراسخة الجذور في بنية الدولة العراقية الحديثة، وتكوين الشعب العراقي بمضمونه السياسي الحديث. من المعلوم أن الدولة الحديثة، أي نموذج (الدولة - الأمة) والتي ظهرت تاريخيا في الغرب، ومن ثم أصبحت ظاهرة عالمية، ترتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم الوطن والشعب. هذا النموذج من التنظيم السياسي، يتميز عما سبقه من التنظيمات، ومنها النموذج الإمبراطوري، وهي ذات حدود محددة، والوطن أي الإقليم يشكل أحد أهم عناصرها، الدولة الحديثة هي مظلة سياسية تمتد لحدود ثقافة قومية معينة في الوضع الطبيعي، وتحكم مسافة جغرافية يسكنها مجموعة من البشر يسمون الشعب ويخضعون لسلطة سياسية واحدة.

والوطن كمفهوم من مفاهيم الحداثة الفكرية والسياسية جديد على قاموسنا الفكري والسياسي ويتناقض مع بعض قراءاتنا الدينية والتاريخية، إن مفهوم الوطن بهذا المضمون الحالي يختلف عن الوطن في ثقافتنا القومية والتاريخية لأن الوطن عندنا يرمز إلى مكان التولد والنشأة البدائية للإنسان ضمن السياق العشائري والاجتماعي الموجود.

إذن فإن الوطن ليس مجرد أرض ومساحة جغرافية معينة، بل هو أرض وجغرافية معرّفة تعريفا قانونيا وسياسيا وقوميا بل وحتى - إلى حد ما - روحيا. ويرتبط ببناء الشعب والمنظومة القانونية وأهم مفهوم من مفاهيم الفكر السياسي الحديث وهو المواطن ومبدأ المواطنة المتساوية، ومركز الفرد القانوني وحقوقه وحرياته. إن الأفراد من خلال انتمائهم إلى وطن واحد، وامتلاكهم للجنسية والتي ترمز إلى وجود علاقة سياسية وقانونية بين الفرد والدولة، مبدئيا يصبحون ذوي حقوق وواجبات متساوية، ويتساوون أمام القانون بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والقومية والمذهبية ومكانتهم الاجتماعية وموقعهم الطبقي والمالي. وبمجموعهم يشكلون الأمة، أو بالأحرى الشعب بالمعنى الحديث، ويتمتعون بنفس الحقوق المدنية والسياسية. بل أكثر من ذلك فإن مفهوم الوطن يتعلق ببعض الحقوق المكتسبة للفرد مثل حق التعليم والصحة والسكن والحد الأدنى من الرفاهية، والعيش بالكرامة. ووجود فضاء لممارسة الحريات والتعبير عن الذات، والبعد عن القهر والقمع وخنق الحريات، بحيث إذا حرم الإنسان من تلك الحقوق البدائية والطبيعية وعومل بأسلوب وروح مخالفا لذاته الآدمية، والنفخة الإلهية المتجسدة في روحه وآدميته، يعتبر غريبا وطريدا عن وطنه ومسلوب الجنسية ولو أنه ظاهريا - وبمنطق قانوني مجرد - يعيش على أرض الوطن ويسمى - زورا وبهتانا - مواطنا.

لذا علينا أن نميز بين المعنى الحقيقي للوطن والمعنى الظاهري والقانوني له، فإن مجرد وجود سلطة حديثة تمارس سلطاتها داخل حدود جغرافية معينة لدولة ما لا يحولها إلى وطن، وإذا كان الانتماء إلى قومية معينة أو دين معين أو أي مكون آخر، شرطا لاكتساب الجنسية وحق المواطنة، ستظل الأرض وطنا حسب القانون الدولي المعمول به، وبعض مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وقراءات مشوهة أو متطرقة للقومية والوطنية، لكن يبقى بعيدا عن روح الوطن بالمعنى الحقيقي والليبرالي والإسلامي المنفتح.

وهذا الترابط المتين بين وجود فكرة الوطن والوطنية وبين حقوق المواطنة والمساواة والعدالة السياسية والاقتصادية، واحترام الهويات والانتماءات المختلفة مسألة جوهرية لتصحيح فهمنا للعقيدة الوطنية ونوعية علاقة الإنسان بالأرض وبالسلطة السياسية، ومن ثم إعادة بناء المفهوم من جديد لجعله إطارا يتسع للجميع ويحل مشكلة الانقسامات والاستبداد في بلداننا.

وإذا نظرنا إلى الحالة العراقية في ضوء ما ذهبنا إليه من تحديد لمضمون الوطن كما عرفه الفكر السياسي الحديث، ويجسده نماذج سياسية عديدة في بعض المناطق من العالم، سنجد بكل سهولة أن جوهر محنة العراق الحديث، هي في عدم تحول أرضه إلى وطن. وكان العراق الحديث بسبب تكوينه التاريخي وعدم رعاية الحقائق الجغرافية والتاريخية والقومية والمذهبية في رسم حدودها من قبل الأسياد المستعمرين الذين رسموا الحدود الدولية للعراق، وأسسوا لنظامه السياسي، ولكونه بلدا يتسم بتعدد الأديان والمذاهب والقوميات ولا يجمعهم جامع غير فكرة وطن واحد وهوية وطنية جامعة واحدة، وبسبب عدم تبلور الهوية، لكل هذا تحول العراق إلى أرضية خصبة للاستبداد والتهميش وموهنة قيمة الإنسان.

وكان ملك العراق فيصل في بدايات الدولة العراقية الحديثة، يشكو من عدم وجود شعب عراقي واحد لكثرة الهويات والانتماءات والانقسامات، وغياب فكرة الوطنية عندهم. ومن ثم عدم وجود الإحساس المطلوب بالهوية الوطنية الواحدة وتقديمها على الهويات الفرعية الأخرى كما تتطلبها الحداثة السياسية وتكوين الشعوب والأمم الحديثة.

وفي ظل عدم تحول أرض العراق إلى وطن، ووجود سلطة وبيروقراطية وأيديولوجية حديثة، حاكمة متسلطة، لا يتوقف الأمر عند الحرمان من بعض الحقوق الفردية المعروفة، بل يتطور إلى مواقع خطيرة وتتبدل هذه الأرض إلى سجن كبير بل في بعض الأحيان إلى شبه جهنم. وهذا ما شاهدناه وجربناه في العراق خاصة بعد سقوط النظام الملكي وتأسيس نظام جمهوري فارغ من أي مضمون أخلاقي وقانوني للجمهورية. لأن مرحلة الجمهورية في العراق رافقها الدم والقمع والانقلابات العسكرية وعسكرة المجتمع وإلغاء الحريات الأساسية والتنكر للاختلافات الطبيعية داخل المجتمع واللجوء الوحشي إلى التوحيد القسري بغية تكوين مجتمع عصري بلون واحد. وفي ظل الأيديولوجية الواحدة والحزب القائد بل والزعيم الأوحد يعبر عن وجدان الأمة ومتطلبات المرحلة وهذا ما مثلته الفترة البعثية ووصلت هذه السياسة إلى ذروتها في ظل حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين وقبضته الحديدية على الدولة والمجتمع ومغامراته الجنونية، وذلك بتبنيه نهجا شموليا لإدارة البلد والتحكم المطلق في مقدراته ومصير أبنائه.

إذن - وباختصار شديد، وفي ضوء ما سبق قوله - نحن إزاء عراق من دون مواطنين عراقيين. وإن عدم وجود عقد اجتماعي لتأسيس الدولة تاريخيا، وعقد سياسي فيما بعد لضمان الشراكة والمشاركة السياسية الحقيقية في ظل نظام ديمقراطي تعددي مبني على احترام حقوق المواطن والمكونات، وتقسيم الثروة والسلطة وفرض حكم الأقلية وتولي أصحاب مشاريع قومية متطرفة في العهد الجمهوري لمقاليد الحكم والسلطة، ومن ثم محاربة آمال وتطلعات المخالف المذهبي والقومي والأيديولوجي والسياسي في آن واحد إلى حين سقوط النظام البائد، كل هذا أدى إلى عدم تبلور مفهوم حقيقي للوطن والمواطن وعدم شعور المواطن بأن انتماءه للعراق يعطيه الحصانة اللازمة من التعرض للإهانة والحرمان والفقر والتعذيب والقمع بل والموت الزؤام. وحتى بعد سقوط النظام وانكشاف أمر الوحدة الوطنية الزائفة المفروضة بالحديد والنار ورغم كتابة دستور عصري يؤسس للتعددية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة ومشاركة الجميع في صنع القرار السياسي لم يتغير الحال كثيرا بل أصبح العراقيون أمام واقعهم المرير بكل ملابساته وتعقيداته وتقسيماته.

وما عمّق من تدور هذا الواقع هو الانقسام على الهويات والانتماءات المختلفة بل والمتناحرة وسعي الأغلبية المذهبية للانتقام التاريخي والهيمنة، وتشبث الأقلية بعقليتها وتطلعاتها وأدواتها القديمة في الصراع للحفاظ على دورها التقليدي والتصدي لأي محاولة تنال من هيمنتها التاريخية، وعدم قراءتها الصحيحة للواقع الجديد والمعادلات والتوازنات الجديدة، والمتغيرات التي غيرت قواعد اللعبة وكيفية المشاركة في صياغة المرحلة وما ترتب على ذلك من مقاومة مسلحة واندلاع حرب طائفية كنتيجة لنزعة الهيمنة من قبل الأغلبية وتمسك الأقلية بمفاهيمها القديمة.

هذا الواقع الجديد أيضا لم يستطع أن يعود بمفهوم الوطن إلى الأرض والجغرافيا. والروح الوطنية الصادقة إلى السياسة والمشاريع السياسية، وروحية السياسيين بل أضاف إلى الطائفية الاجتماعية طابعا مذهبيا دينيا ورغم سقوط الأيديولوجية القومية الحاكمة المتمثلة بحزب البعث ورؤاه الإقصائية والتدميرية للآخر القومي وخاصة الكردي، لم يحل المسألة القومية في العراق، بسبب بقاء مناطق متنازع عليها، وعدم احترام البنود والآليات الدستورية في حلها، ووجود قضايا ومشكلات أخرى معلقة بين الإقليم الكردستاني والسلطة المركزية منذ سنوات من دون حل، لذا فهي مرشحة للانفجار في أي لحظة.

وهكذا المحنة العراقية التاريخية مستمرة.. والأزمات العراقية الراهنة والانقسامات الخطيرة بكافة ألوانها وعناوينها تنعكس بهذه المحنة المزمنة في الجسم العراقي، وعدم وجود مشروع وطني لبناء الوطن والدولة من جديد متجاوزا الواقع التاريخي المرير، ولا يلوح في الأفق أي أمل لهذا التحول الراديكالي الضروري لإعادة لحمة العراق واستقراره والرفاهية والديمقراطية الحقيقة، لذلك ربما سيصبح التقسيم الحل الأخير لتلك المعضلة التاريخية.

* مفكر إسلامي

ووزير سابق كردي عراقي