الشرف العسكري

TT

للحروب تقاليدها، بل وأخلاقياتها العريقة. من ذلك عدم محاسبة قائد الجيش أو معاقبته عن خوضه المعركة، فليس له أن يراعي مبادئه أو أخلاقه، وما عليه غير أن ينفذ الأوامر الصادرة إليه من الساسة من دون أي نقاش، وإن كان الساسة أيضا لا يحاسبون عما يقومون به، لأن عليهم كذلك أن يتخلوا عن مبادئهم وبرامجهم وينفذوا ما تطلبه منهم البنوك والشركات الكبرى، وهذا هو السر في أننا لم نحاسب أو نحاكم قادتنا الذين خاضوا الحرب ضد إسرائيل في 1948، فلم يفعلوا غير أن نفذوا الأوامر التي صدرت إليهم من الإنجليز.

وعندما لم تأت هذه الأوامر لم يفعلوا شيئا، وهو ما جرى للقائد العراقي عندما استنجد به الفلسطينيون في معركة جنين فرفض أن ينجدهم وقال كلمته التي خلدت في ضمير الفلسطينيين: «ماكو أوامر».

لم أسمع بعد ما إذا كان القائد الإسرائيلي قد أولم للقائد العراقي وليمة نقانق كوشر على فودكا بولوني. فمن التقاليد العسكرية أن يولم القائد المنتصر وليمة عشاء للقائد المنهزم، ولكن الإسرائيليين معروفون بالبخل. ليس الأمر كذلك في الغرب. فمن الشائع عندهم أن القائد الذي يخسر المعركة يسلم سيفه للقائد المنتصر وعندئذ يرحب به هذا ويتعشى معه، وهذا ما فعله نابليون عندما خسر معركة واترلو، وتمسك الجنرال مونتغومري بهذا التقليد عندما أسر جنرالا ألمانيا من ضباط أركان رومل فاستضافه للعشاء معه، وأثار بعض النواب ضجة في البرلمان البريطاني على هذا التصرف واستضافة مونتغومري لقائد نازي ضالع بجرائم الحرب، فرد عليهم تشرشل قائلا: «يا حضرة النائب، إنني أرثي لهذا القائد الألماني، فأنا تعشيت مع مونتغومري وأعرف ما يقدمه من طعام»، كان مونتغومري نباتيا.

يجلس القائدان عادة بعد العشاء ويتبادلان الحديث عن المعركة، وما حصل فيها، وما كانا ينويان القيام به ونحو ذلك، وبعد معركة طاحنة جرت بين الجيش البريطاني والجيش الفرنسي، انتصر الإنجليز على الفرنسيين، ووقع الجنرال الفرنسي أسيرا بيدهم، وكان من ألمع القادة شهرة بمقدرته العسكرية. اعتاد القائد البريطاني الجنرال مالبرو على تناول العشاء مع غريمه الفرنسي كل يوم، يجلسان ويتناولان العشاء ويحتسيان البراندي، وبينما كانا يلعبان الشطرنج بعد العشاء خطر له أن يسأل القائد الفرنسي، من كان يعتبره في رأيه أعظم قائد عسكري في التاريخ؟ فأجابه قائلا: من دون شك هانيبال الفينيقي. قال له: ومن تضعه في المرتبة الثانية؟ فقال له: الإسكندر المقدوني. ومَن بعد ذلك؟ أجابه فقال: يوليوس قيصر. عاد الجنرال مالبرو فسأله، وأنت أين تضع نفسك؟ قال له: لو أنني انتصرت عليك في هذه المعركة، لما ذكرت أيا من هؤلاء الثلاثة!

وفي هذا الإطار، ساق الحلفاء ساسة ألمانيا لمحكمة نورنبرغ كمجرمين ولم يسوقوا القادة العسكريين. كانوا ينفذون الأوامر. غير أن بعض المعلقين استاءوا من رفض القائد الأميركي مد يده لمصافحة القائد الألماني عندما استسلم له ومد يده لمصافحته. قالوا: هذا خلاف الشرف العسكري، فالشرف العسكري يقضي بأن يموت الجنود الغلابة في المعركة، ثم يجلس القادة ليتناولوا الكافيار والشامبانيا.