التقسيم الإيراني ـ التركي للشرق الأوسط

TT

وصف الكثير من الأميركيين من التيار اليميني والمحللين الإسرائيليين، خلال العقد الماضي، الصراعات الجغرافية - الاستراتيجية التي تحدث في الشرق الأوسط، في إطار حرب باردة جديدة تضع أميركا في حرب ضد شيعة إيران. لقد حذروا من «الهلال الشيعي» العربي الممتد من لبنان إلى العراق، والمتصل بإيران عبر الدين والتجارة والجغرافية الاستراتيجية.

لقد بدأ العام الجديد بمحاولة شيعية للتلاعب بالقوة، من خلال رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، الذي يحاول السيطرة على الحكومة العراقية والاستعراض الإيراني للصواريخ والقدرة النووية، فضلا عن التهديدات بإغلاق مضيق هرمز في حال منع إيران من تصدير النفط.

ويمكن النظر إلى هذه الأحداث باعتبارها دليلا قاطعا على التوسع الإيراني الممزوج بالخوف من امتلاكها سلاحا نوويا، الذي يجعل من المستحيل التعرض للنظام الحالي وعملائه الإقليميين من قريب أو بعيد. ما تتجاهله هذه النظرة للشرق الأوسط هو حقيقة أن أميركا تواجه مشكلات سياسية واقتصادية داخلية. على الجانب الآخر، تجيد تركيا، الصاعدة داخل الإقليم، المناورة أكثر من الاثنين.

إضافة إلى ذلك، أغفل المراقبون الغربيون خيطا أساسيا للأحداث، وهو التقسيم المستمر للجمهوريات العربية بين تركيا وإيران. يصاحب ذلك تراجع وضع أميركا كلاعب مهيمن على الإقليم. فقط الأنظمة الملكية العربية وإسرائيل هي التي لا تزال تنظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها الراعي الأساسي لها.

من أجل التحقق من كيفية رؤية الأطراف الفاعلة في المنطقة لهذه الديناميكيات المتغيرة، قضى باك عطلة الكريسماس في أربيل، عاصمة إقليم كردستان.

بعد انسحاب القوات الأميركية من العراق، أكد مسؤولو إقليم كردستان على حاجتهم لراع إقليمي لحمايتهم من سيطرة بغداد. ويحتاج كردستان العراق المحاصر جغرافيا إلى قناة لتصدير نفطه إلى الغرب. الدولة الوحيدة التي يمكنها تحقيق هاتين الغايتين هي تركيا. لهذا كثيرا ما اتخذ مسؤولو إقليم كردستان جانب أنقرة في مواجهة حزب العمال الكردستاني، بدلا من مساندة الأكراد داخل تركيا.

كل هذا يوضح السبب في عدم إثارة الغارة الجوية التركية في 28 ديسمبر التي أسفرت عن مقتل 35 مهربا كرديا بطريق الخطأ للاشتباه في كونهم إرهابيين غضبا كبيرا داخل إقليم كردستان. لم يكن هناك أي مظاهر لاحتجاجات ضد تركيا في شوارع أربيل، بل يمكن للمرء أن يلاحظ الوجود التركي الكبير، من خلال مشاريع البناء والاستثمارات والسلع الاستهلاكية والسياحة. إذا تمت إقامة المزيد من الخطوط من إقليم كردستان إلى البحر المتوسط عبر تركيا، فستكون النتيجة دولة عازلة كردية - عراقية. وستمثل هذه الدولة حاجزا عازلا يمنع التدخل الإيراني (وربما أميركا أو من قبل حزب العمال الكردستاني) في الشؤون التركية، نظرا لاعتمادها الكبير على تركيا من أجل البقاء. الوضع في جنوب العراق مغاير تماما، حيث توجد دولة شيعية عازلة مدعومة من إيران تمنع أي تدخلات أميركية أو تركية أو سعودية.

أكدت الأحداث التي وقعت خلال الأسبوعين الماضيين بما لا يدع مجالا للشك أن المالكي هو «رجل إيران» في بغداد. على الرغم من هذا التقسيم الفعلي على أرض الواقع للعراق خلال الشهر الماضي، لا تدخل تركيا وإيران مع بعضهما بعضا في صراع على مناطق النفوذ، لذا عادت إيران إلى وضعها التقليدي كبولندا الشرق الأوسط.

في فترة ما بعد الربيع العربي قسمت تركيا وإيران الحركات الإسلامية المتمردة بينهما، فاتجه الأتراك إلى دعم الإسلاميين المنتصرين «المعتدلين» من تونس إلى مصر، بينما اتجهت إيران إلى دعم السلفيين، على الرغم من أنهم من المسلمين السنة. ووقف جناحا هذا التيار الإسلامي في كل من الانتخابات المصرية والتونسية وفي الصراع الداخلي في ليبيا، في معسكر واحد ضد العلمانيين والليبراليين الجدد المدعومين من الغرب. ونظرا لعدم وجود سكان من الشيعة في شمال أفريقيا وظهور الإسلاميين «المعتدلين» باعتبارهم اللاعبين الأساسيين في المنطقة، تظهر كل من تركيا السنية وقطر، كقوتين صاعدتين وراعيين تجاريين في شمال أفريقيا.

وبدأت طريقة تركيا في حل القضية الفلسطينية - الإسرائيلية تختلف عن طريقة إيران، فمنذ الخمسينات وحتى عام 2002، تمتعت النخبة العسكرية العلمانية في أنقرة بعلاقات سياسية واقتصادية استثنائية مع الغرب. كذلك كونوا علاقات دفاعية وطيدة مع إسرائيل وقوات حلف شمال الأطلسي. مع ذلك منذ ذلك الحين، خرجت تركيا من مدار الأمن الغربي. في البداية، عارضت تركيا الحرب الأميركية ضد العراق عام 2003، ثم زاد قربها من الجانب الفلسطيني من الصراع، بعد أن أسفر الهجوم على قافلة الإغاثة المتجهة إلى غزة عن مقتل تسعة أتراك في المياه الدولية. فقط بدا الاختلاف الواضح بين تركيا وإيران فيما يتعلق بسوريا؛ ففي الوقت الذي كانت تدعم فيه إيران وحليفها حزب الله في لبنان نظام الأسد، كان الأتراك يدعمون السوريين ويوفرون لهم الملاذ الآمن. مع ذلك، ربما يظهر الصراع بأكبر من حجمه الحقيقي، حيث ستدعم تركيا المسلمين السنة في حقبة ما بعد الأسد، بينما ستظل إيران راعية العلويين. إضافة إلى ذلك، سيجد الاثنان طريقة لحماية مصالحهما الاستراتيجية والمالية أيا كان النظام الذي سيتولى الحكم في سوريا.

خلال عام 2011، منع الهوس الغربي المستمر بالتهديد النووي الإيراني صناع السياسة من إدراك الديناميكية الواضحة في الشرق الأوسط. لقد تم تجاهل الذين حذروا من وجود «مستقبل تركي - فارسي» بعد «الموجة الديمقراطية العربية» مثل محمد أيوب. لقد أضعف الربيع العربي الدول العربية بشكل كبير، حيث تركها معرضة للتقسيم وزاد الفيدرالية والتدخل الخارجي. إذا نظرنا إلى الوراء، ربما ندرك أن عام 2011 تسبب في تمزق حاد للمشهد السياسي في الشرق الأوسط مثلما حدث عام 1919، فبعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، قسمت كل من بريطانيا وفرنسا الشرق الأوسط العربي بينهما، وحصلت الأولى على نصيب الأسد. الشريك الأضعف والأقل استقرارا في التقسيم الناعم للمنطقة الذي يحدث اليوم هو إيران، أما المنتصر الحقيقي في الربيع العربي هو تركيا الناهضة. هؤلاء الذين يتجاهلون الحقيقة، فليتحملوا الخطر.

* باك باحث في التاريخ الليبي

بجامعة كمبردج، وكريفلد من أكبر محللي التاريخ العسكري

* خدمة «غلوبال فيو بوينت»