المسار الجديد

TT

افتتحت الرباعية الدولية مسارا تفاوضيا جديدا في عمان.. ولقد كان السيد ناصر جودة، وزير الخارجية الأردني، صريحا في تقديم ما حدث عبر إعلانه عما سيحدث، قائلا إن هذا اللقاء لن يكون الأخير وستتلوه لقاءات قد يعلن عن بعضها وقد لا يعلن، وحدد هدف اللقاءات بأنه محاولة جدية لإيجاد نقاط اتفاق وتفاهم تؤدي إلى استئناف المفاوضات بغية التوصل إلى حل سياسي.

وعلى مألوف العادة أعلنت معظم الفصائل الفلسطينية مع عدد من المستقلين، ومن ضمنهم أعضاء في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، استنكارهم للقاء عمان، وكثير من المتحدثين اعتبر مجرد اللقاء نكوصا عن التزامات معنوية وسياسية قدمتها القيادة حين تشددت في أمر وقف الاستيطان كشرط لاستئناف المفاوضات.. وجميعهم رأوا في هذا اللقاء ضربة قاصمة لجهود المصالحة.

أما المدافعون الرسميون عن لقاء عمان فقد قدموا تفسيرات ساذجة لما حدث، كالقول إنها ليست مفاوضات بل لقاءات واتصالات، وأقرب نقطة إلى الحقيقة كانت ما قيل عن أنها ليست مفاوضات مباشرة بدليل حضور أطراف أخرى في المبنى أو القاعة.

ما الذي حدث بالضبط في عمان؟

إنه افتتاح رسمي وعلني لمسار سياسي جديد، وبوسعنا وصفه بالتفاوضي أو التغاضي عن هذا الوصف. ولا جدال في أن الإخراج الذي تم كي لا يبدو اللقاء كما لو أنه انقلاب موقف من جانب السلطة، كان معقولا. فالمكان هو أرض الشريك السياسي في الاعتدال والرهان على السلام، وحين يقرر الأردن الدخول في تجربة من هذا النوع - على الرغم من عدم تسلحه بضمانات حاسمة للنجاح في أحداث اختراق سياسي - فإنه يفعل ذلك مدفوعا بمحصلة حسابات أجريت على مدى الشهور الطويلة والقاسية التي مرت دون أي حركة تذكر باتجاه تحريك الموضوع الفلسطيني تفاوضيا مع الجانب الإسرائيلي. ومثلما يعاني الطرف الفلسطيني من الجمود السياسي وتداعياته السلبية يعاني الأردن كذلك.. فهذا البلد الشقيق والجار والشريك في المغرم - حيث لا مغنم حتى الآن - ليس طرفا ثالثا أو رابعا في الشأن الفلسطيني، كما أنه ليس وسيطا يؤدي دورا فنيا، إنه الامتداد وهو البوابة المشرعة التي لا تغلق حين يتعرض الفلسطيني لمزيد من أذى الاحتلال، وحين يتعرض الأردني لتهديد كيانه من قبل التطرف الإسرائيلي، الذي يتحدث عن الأردن كوطن بديل للفلسطينيين، في حين يعرف الفلسطينيون والأردنيون بذات القدر كم هو مرفوض هذا الطرح وكم هو خطير حتى مجرد التلويح به من جانب إسرائيل.

لقد بادر الأردنيون، وبالتأكيد بعد مشاورات واسعة مع كل من يهمه الأمر، إلى اتخاذ هذه الخطوة. وحين يقدم الأردن على خطوة كهذه فمن غير المعقول ألا يستجيب الفلسطينيون، خصوصا أن الأردن ليس وحده في الملعب، بل معه الرباعية الدولية التي مهما بلغت ملاحظاتنا الساخطة عليها وعلى دورها وقدراتها، تظل بكل المقاييس ممثلة العالم في الشأن الفلسطيني - الإسرائيلي، وليس من الحكمة قطع الحبل معها.

كذلك.. وبعد آلاف اللقاءات الفلسطينية والعربية والإسرائيلية تكرست مقاييس جديدة للقاءات المباشرة وغير المباشرة، وأهمها على الإطلاق ليس أن يتم اللقاء أو لا يتم، أو أن تجري مصافحة أو لا تجري.. بل المهم هو ماذا سيكون موقفك في أي لقاء؟ ماذا تعطي؟ وماذا تأخذ؟ لقد حدثت لقاءات كثيرة مباشرة وغير مباشرة بطلب أميركي أو بمبادرة من جهات أخرى، ولم تسفر هذه اللقاءات عن نتائج جدية، لا على صعيد استئناف المفاوضات ولا على أي صعيد آخر. ذلك لأسباب موضوعية، بعضها فلسطيني حيث لا يستطيع الجانب الفلسطيني تقديم التنازلات المطلوبة إسرائيليا لإبرام صفقة حل، والبعض الآخر والأهم إسرائيلي، حيث الحكومة الإسرائيلية ترى أن الحل المناسب لها أقرب إلى الاستسلام لمطالبها منه إلى «تسوية وسط» يمكن ابتلاعها فلسطينيا ولو على مضض!

يظل هذا هو بيت القصيد، وهذا هو جوهر الإخفاق أو النجاح في العملية السياسية الفلسطينية - الإسرائيلية، سواء جرت من أجلها لقاءات علنية أو سرية، في عمان أو القاهرة أو واشنطن.

وفي ما يتصل بتأثير هذا اللقاء على المصالحة وهل وجه ضربة قاصمة لها.. أم ماذا؟ فإن حسابات المصالحة وأسباب تعثرها حتى الآن مختلفة عن الذي يجري وسيجري في عمان، وسبب ذلك أن الشأن السياسي في أمر المصالحة لم يحسم بعد، وحكاية «نلتزم أو نحترم الاتفاقيات» لم يقترب منها أحد. ويبدو أن هنالك تواطؤا إيجابيا على عدم جعلها حدا مفصليا في الأمر كله، لذا فإن أفضل المواقف من لقاء عمان وما سيتلوه، هو تحديد حاسم لما يريده الفلسطينيون وما لا يريدون، وهل بمقدورهم تحقيق ما يريدون خارج إطار العملية السياسية التي ترعاها الأردن الآن ومعها الرباعية، وكل من جرى التشاور معهم في هذا الأمر؟ على الفلسطيني أن يجيب أولا عن الأسئلة المتصلة به، فإن أجاب بصورة صحيحة فلا يهم أن تجرى لقاءات في أي مكان، أما إذا ظلت الأسئلة معلقة فهنا تكمن المعضلة. أخيرا فإن المسار الجديد الذي يتمنى الجميع أن ينجح في إحداث اختراق، على صعوبة وربما استحالة ذلك، لن يكون أزليا. فهنالك مهلة للتبشير بالنجاح وبعدها سيكون لكل حادث حديث، فليتجنب الفلسطينيون معركة داخلية على هذا الأمر.