ليبيا: من الثورة إلى الدولة

TT

«ليبيا من الثورة إلى الدولة: تحديات المرحلة الانتقالية». هذا هو عنوان الندوة التي عقدت في الآونة الأخيرة (7 - 8 يناير) في الدوحة وكنت أحد المشاركين فيها بمعية باحثين من مصر والمغرب وموريتانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية ومن ليبيا بطبيعة الأمر. والندوة هذه هي باكورة أعمال المركز الليبي للدراسات والبحوث. أول ما أنوه به هو مستوى الجدية والمهنية العالية في التحضير للندوة وفي سير أعمالها، وثاني شيء يستوجب الذكر هو الرصانة والمسؤولية اللتان طبعتا جلسات العمل، والحق أن من النادر أن يكون الشأن كذلك في العالم العربي في لقاء يحضره، جنبا إلى جنب، أكاديميون وفاعلون سياسيون في موضوع سياسي يتصل بالعمل والتدبير أكثر مما يرجع إلى النظر المجرد - ولقاء الدوحة هذا شهد حضور أعضاء سابقين في المجلس الانتقالي الليبي ومناضلين سياسيين معارضين للقذافي ونشطاء في مجال حقوق الإنسان. صورة تبعث على الاستبشار وتحمل على التفاؤل بالنسبة للبلد العربي الذي لا يزال يعاني من آلام عنف دموي ودمار شاملين ذاق الشعب الليبي مرارتهما أزيد من ثمانية أشهر متصلة سقط فيها الشهداء بالآلف والجرحى بعشرات الآلاف. إنه لأمر له دلالته الواضحة أن يجعل مركز ليبي للأبحاث من التفكير في المرحلة الانتقالية مادة للبحث والتفكير والحال أن البلد يعيش المرحلة الانتقالية وينهمك في التفكير في الكيفية الأكثر نجاعة في التخطيط للدولة الليبية الجديدة وللدستور الذي يكون لتلك الدولة أن تحتكم إليه وفي الأسئلة الكبرى التي تتصل بالتدبير السياسي والتنظيم الإداري لدولة ليبيا الحرة، ليبيا المستعادة بعد عقود أربعة من النفي والتهريب، بعد ليل من الظلام الدامس ومن الأوهام.

عرضت الندوة، في جلسات أربع، لقضايا الفراغ المؤسسي، ولأسس بناء دولة القانون، ثم للتحول الديمقراطي في ليبيا، وخصصت الجلسة الرابعة للأمن الوطني ولمظاهر العسكرة (خارج مؤسسة الجيش الوطني التي لا تزال في مرحلة الأمل). أجمعت الأوراق المقدمة في الجلسة الأولى على وجود فراغ مؤسسي رهيب في ليبيا غداة انطلاق الثورة الليبية، بل إبان الثورة. ذلك أن مؤسسات الدولة كانت شبه منعدمة في السنوات القليلة التي أعقبت استقلال البلاد في سنة 1951، ثم نحن نعلم ما صارت إليه الأحوال مع «الفاتح» بعد ذلك. طيلة 42 سنة كاملة لا يصح الكلام عن الدولة من حيث الإدراك الطبيعي والكلاسيكي لها، فالعقيد اجتهد في تغييب معالم الدولة كما هي معهودة في الأدب السياسي الحديث وفي الفقه الدستوري المعاصر: فـ«اللجان» في كل مكان و«مؤتمر الشعب العام» منعقد بصفة مستمرة و«أمناء اللجان الشعبية» قد حلوا محل الوزراء، وبالتالي فلا وجود للحكومة لأنه ليس لها دور ولا معنى ما دام حكم الشعب حكما مباشرا عن طريق لجانه الثورية. نوع من اليوطوبيا التي سخرت «الجماهيرية» كل وسائلها وإمكاناتها الهائلة لترسيخها وإكسابها غلة من الشرعية الكاذبة. لذلك فإن سقوط النظام لم يكن قط يعني سقوط الدولة لسبب بسيط هو أن هذه الأخيرة كانت في حقيقة الأمر غير موجودة وإنما ما كان في الواقع موجودا هو نوع من الإدارة المباشرة التي يجوز تشبيهها بحال أحكام عرفية استمرت 42 سنة تحت مسمى غريب. لذلك فإن سقوط النظام طرح مشكل غياب أجهزة الدولة كاملة مثلما طرح، دفعة واحدة كما قال أحد الباحثين المشاركين في الجلسة الأولى، قضايا القبيلة، والسلاح المنتشر في كل مكان والمتداول بين مختلف الحساسيات الإيديولوجية، والزعامات. استطاع المجلس الانتقالي أن يملأ الفراغ الهائل غير أنه لم يستطع ذلك إلا إلى حد ما ومن ثم فإن سؤالا مشروعا يطرح نفسه على الملاحظ لما يحدث في ليبيا حاليا: هل يصح الكلام، في نزوع تفاؤلي قد يجد ما يبرره، أم أنه يتعين الحديث، بالأحرى، عن نصف الكأس الفارغ؟ وبعبرة أخرى يجمل بنا التساؤل على النحو التالي: هل تقف ليبيا اليوم على شفا الحرب الأهلية أم أنها تصارع الإشكالات التي أنتجتها شهور طويلة متصلة من التخريب والقتل؟ الواجب، في الحالتين معا، هو تحقيق الوعي الكامل بحالة الفراغ المؤسسي التي عرفتها ليبيا طيلة العقود الأربعة التي كانت الدولة فيها في حال من الأسر و«التهريب» القسري ولذلك فقد كانت الدولة هشة منهكة وكان الواجب الحديث عن تطلع إلى بناء دولة القانون من خلال التطلع إلى بناء المؤسسات السياسية للدولة - وذلك كان هو موضوع المحور الثاني من محاور ندوة ليبيا من الثورة إلى الدولة.

عرض المشاركون في الجلسة الثانية التي خصصت، كما ذكرنا، لبناء المؤسسات السياسية لقضية أولى شديدة الأهمية وهي قضية صياغة الدستور من حيث الأهداف الواجب توخيها حتى لا يكون الوقوع في شرك الانحرافات من مختلف الأصناف. يتعين على الحكومة المؤقتة وعلى الجمعية العمومية التي ستنكب على صياغة الدستور الليبي أن تبت، في غير عجلة في مسألة النظام الأفضل في الحكم، وهذا من جهة أولى وفي المبادئ العامة التي توجه الدستور فتقوم بعمل البوصلة الهادية إلى السبيل القويم وهذا من جهة ثانية. وكما قال الأستاذ صالح الزوي في نظراته القانونية الثاقبة في البحث الذي قدمه للندوة «حقوق الإنسان كمعيار لبناء دولة المؤسسات» فإن الأهم، بل الأساس، هو الاستعداد لتحقيق الثورة من الداخل، تغيير ما بأنفسنا. الحق أن حديث السيد الزوي عن ليبيا المستقبل يقبل التعميم ليغدو حديثا شاملا يعني الإنسان العربي في كل مكان، في هذه اللحظة التاريخية التي نحن شهود عليها.

كان المحور الموالي تكملة لما تم التطرق له في الجلسة الثانية، فقد كان متصلا بتغير أنماط الثقافة السياسية وخاصة ما تعلق بالتحول الديمقراطي أو المرجو أن يغدو في ليبيا كذلك. طرح شيخ علماء الاجتماع الليبيين الدكتور مصطفى التير السؤال الهام التالي: ما السبيل، في ليبيا، إلى الانتقال من ثقافة الرعية إلى ثقافة المواطنة؟ ما السبيل إلى ذلك ما دامت الحداثة الحق ترتبط باكتساب ثقافة المواطنة ارتباط علة بمعلول، ومرة أخرى نقول إن التفكير في الحالة الليبية يقبل التوسع في مجال النظر وإعمال الفكر ليكون تفكيرا شاملا في الوجود السياسي العربي المعاصر. وتساءل الدكتور مصطفى بوخشيم عن تأثير عملية التحول الديمقراطي على الثقافة السياسية لثوار 17 فبراير وأبديت، من جهتي، جملة ملاحظات تتعلق بالشروط الواجب مراعاتها من أجل تشييد الدولة المدنية على الحقيقة، دولة الفانون أو الدولة التي تكون فيها المرجعية العليا هي القانون الأسمى الذي ترتضيه الأمة دستورا لها.

ما أود أن أخلص إليه أن ندوة الدوحة المشار إليها جعلتني، شخصيا، أعيش تجربة فريدة هي تجربة التفكير في شروط ومقتضيات بناء الدولة الحديثة في بلد عربي شقيق في الوقت ذاته الذي نجد فيه الفاعلين السياسيين منهمكين في التداول في القضايا التي تتصل بذلك البناء، بل أن يكون من حضور الندوة والمساهمين الفعليين فيها فاعلون سياسيون فعليون. لقد كنت، في كل مرة أطلب فيها الكلمة، أستشعر حرج الخوف من الوقوع في وهدة الفضول والقول السهل الرخيص بيد أن المناخ العام المهيمن كان يسير في اتجاه التقليل من ذلك الحرج بل والجزم بأن المرحلة الحالية في ليبيا، كما يراها المركز البحثي الليبي الناشئ وكما يعتقد المنتمون إليه يكسب الكثير في الاستماع إلى أصوات شتى وفي الاستفادة من تجارب الشعوب ومن ثمرة الفكر الإنساني. يمكن القول، أخيرا، إن الكيفية التي تمت بها أعمال الندوة التي نتحدث عنها وكذا المناخ العام الذي رافقها يبعث فعلا على الاستبشار والتفاؤل بشأن إرادة بناء الدولة الليبية الحديثة، دولة أقول عنها إنها الدولة الليبية ذات المرجعية الإسلامية.