(الرأي العام) اليقظ.. أقوى ضمانات حقوق الإنسان

TT

ألا يوجد (رأي عام): قوي وناضج ودائم اليقظة، فذلك أفضل وأوسع مناخ لنشوء الطغيان، أو استفحاله وتكاثر شروره.. ومن هنا، فإن الرأي العام المتبصر اليقظ هو من أقوى الضمانات المتينة لـ (حقوق الإنسان)، إن لم يكن أقواها بإطلاق.

والرأي العام - بهذا المفهوم - حارس يقظ - وغير متهاون - لحقوق الإنسان، إذ هو - من ثم - (موقف جمعي حي) - غير هامد ولا راكد ولا غبي - وهو موقف ذو معايير موضوعية: لا ينبعث من نزق، ولا من انفعال سائب متفلت، ولا يميل مع الأهواء كل الميل، ولا بعض الميل، ولا تستفزه المؤثرات من الأرض، ولا يخدع بشعار، ولا يفتن بمصطلح ليس لهما في معاييره وزن، ولا اعتبار.. ولذلك فهو:

1) رأي عام يعرف حقوقه: قيمه ومبادئه، ومعايشه، وأمنه، وأسباب رقيه وسعادته في الحاضر والمستقبل، ويحرص على ذلك كله: حرصه على ذاته ووجوده.

2) رأي يعرف حقوق وطنه فيوفيها ويحرسها بوعي وثبات: انبعاثا تلقائيا، وبدارا لا يكتنفه تثاقل، ولا تلفت، ولا ينتظر دعا من داع.

3) رأي عام يعرف عصره وعالمه ويتفاعل معهما من دون تفريط في حق الذات، ودون افتئات على حقوق الآخرين.

4) رأي عام (ثابت) على ما ينبغي الثبات عليه، طلاع إلى التجديد المستمر فيما يجب أن يتجدد، إذ الجمود مهدرة للحقوق، مسكت لنبضها، مضيع لفرصها.

5) رأي عام مزود بمقاييس الرفض والقبول فيما ينبغي قبوله أو رفضه: لئلا يضيع حق تعجل في رفضه لسوء المقياس، ولئلا يسارع إلى احتضان باطل تعجل في احتضانه لسوء المقياس أيضا.

6) رأي عام: عصي على (الشائعة) معرض عن تأليفها، نافر من ترويجها. فالشائعة والحقوق نقيضان. فالشائعة افتئات على حق العقل والوعي في تلقي المعلومة الصحيحة، وطمس للحقيقة، وتسويق لعملة فاسدة، وافتراء على حقوق الآخرين: فردا كانوا أم مجتمعا أم دولة أم عالما إنسانيا عاما.

7) رأي عام محصن ضد الاستغلال والتدليس السياسي والديني والإعلامي والإعلاني. فهذا الاستغلال: هضم بواح لحقوق الإنسان: المعنوية والمادية.

8) رأي عام يبغض الاستبداد بغضه لأقبح الأمراض، ويناهض الطغيان، لا بحسبانه جورا سياسيا فظا فحسب، بل بحسبانه شركا من الشرك الأكبر.

هذا الرأي العام: الضامن للحقوق، أو المشارك بفاعلية في هذا الضمان: لا يتكون عفوا ومصادفة، بلا تدبير ولا تخطيط، بل لهذا الرأي العام المطلوب: مكونات، يتعين على مؤسسات التعليم والتثقيف والتنوير والتوجيه والإعلام: أن تتحراها، وأن تصبها صبا في صميم مناهجها وخططها وبرامجها.

وهذه المكونات هي:

أ) حقائق الدين: بلا انتقاص منها، وبلا إضافات وهمية إليها، أو تأويلات فاسدة لها.

ب) حقائق العلم: بلا كهنوت (علمي)!! يضفي عليها القداسة، وبلا تفسير خاطئ لها مشبع بآيديولوجيات المفسرين وأهوائهم، وبلا حط من شأن هذه الحقائق: مجاراة للخرافات السائدة، أو بناء على جهالة تظن أن التقليل من شأن هذه الحقائق: خدمة للدين!!.

ج) المفهوم الصحيح للإنسان.

د) المعلومات الموضوعية عن العالم والعصر.

هـ) التحليلات العلمية السديدة للأخبار والوقائع: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية والصحية والبيئية، ذلك أن التحليلات السطحية والمزاجية والاستعراضية من شأنها: تكوين رأي عام معلول بعاهات لا حصر لها.

و) مفهوم (وحدة الأسرة البشرية) المركب من ثلاث: من وحدة هذه الأسرة في الأصل والنشأة.. ومن اختلافها - في الوقت نفسه - في الأعراق والألوان واللغات الكونية، وفي التشريعات والنظم والمناهج الإرادية الاختيارية: السياسية والاجتماعية الخ.. أما المركب الثالث فهو: مقتضى تعارف هذه الأسرة: مهما باعدت بينها العقائد والثقافات والأوطان والبيئات.

ز) مفهوم (التوازن بين التميز والانفتاح) بين ما هو (حضاري أو ثقافي) خاص، وبين ما هو (عالمي) أو كوكبي عام.

ح) مفهوم (تلازم الحقوق والواجبات)، فكل حق يقابله واجب أو مسؤولية. ولئن كان من الظلم: إهدار الحقوق، فإن من الظلم المماثل: إهدار الواجبات والمسؤوليات، إذ الواجبات والمسؤوليات هي (حقوق) - كذلك - بمعيار تحليل المضامين والمقاصد، وبمعيار: أن مجتمعا يطالب بالحقوق ويهمل الواجبات هو مجتمع غير سوي، وغير عادل، وغير أهل لحقوق.

ومن الفرص الجيدة جدا: أن هذه المكونات تقع - كلها - في (دائرة الاستطاعة) التطبيقية أو العلمية، أي إنها لا تأخذ من الإمكانات والجهد أكثر مما تأخذه المكونات الراهنة الواهنة التي يباشرها الناس ابتغاء تكوين الرأي العام.

ونتم المقال بخلاصات مركزة:

1) إن لحقوق الإنسان الأساسية - غير المختلف عليها - ضمانتين رئيسيتين.. الأولى هي (القضاء النزيه).. والأخرى هي (الرأي العام) القوي المستنير. ولما كان الموضوع مركزا على الرأي العام، فإننا نقول: إنه في غيبة هذا الرأي العام القوي اليقظ تهدر حقوق الإنسان الأصلية:

أ) يهدر حق الإنسان في الحياة، حيث يقتل الإنسان بسهولة قتل حشرة سامة. بينما يقف الرأي العام الجاهل الهزيل موقف الخائف أو موقف المبارك أو موقف غير المكترث بشيء!!

وليستحضر من شاء - مثلا - صور مقتل سقراط، أو قتل بني إسرائيل على يد فرعون مصر، أو قتل النصارى الطيبين وحرقهم في الأخدود.

ب) ويهدر حق الحرية - من ثم -، إذ لا معنى لحق الحياة إذا تجرد أو حرم معنى الحياة. فالإنسان يتنسم نسائم الحرية وهو جنين في بطن أمه. فالحرية ملازمة لحياته دوما: حين يخرج من بطن أمه، مثلما تلازمه عيونه التي بها يبصر، وآذانه التي بها يسمع، ورئتاه التي بها يتنفس، وقلبه النابض بالحياة.. كما يتعطل - تلقائيا - حق الكرامة. فالحرية والكرامة قيمتان متلازمتان لا يتصور وجود إحداهما دون وجود الأخرى، فلا يكون - قط - إنسانا حرا غير كريم، ولا إنسانا كريما غير حر. ولذا فإن كل انتقاص من الحرية إنما هو انتقاص من الكرامة: في ذات اللحظة، ولذات العلة.

2) أن هناك رأيا عاما وطنيا: اجتهدنا آنفا في وصفه واجتلاء مكوناته.. وهناك (رأي عام عالمي) يتوجب السعي إلى تكوين أو تعزيز وحدته.. ومن القضايا التي يتفق عليها الرأي العام العالمي: مناهضة الحروب: النووية والتقليدية.. وحبه للسلام.. ونضاله المتحضر ضد تلوث البيئة.. والنزوع إلى توسيع أوعية التعارف والتفاهم والتعاون.. وكراهيته للعنف في شتى صوره: من العنف الأسري إلى عنف الإرهاب.

وثمة تكامل وتفاعل بين الرأيين العامين - الوطني والعالمي -، ذلك أن تلك القضايا التي يتفق عليها الرأي العام العالمي: تصب في مصلحة وسعادة كل وطن، وفي مصلحة رأيه العام.