أزمة الهوية في العراق

TT

هل هناك بوادر لبروز قوى علمانية في العراق قادرة على أن تؤسس دولة المواطنة بعد أن فشلت القوى والأحزاب الدينية في ذلك، وكرست الطوائف والمكونات على حساب المواطنة الحقة؟

وهناك أسئلة تبرز للواجهة؛ أول هذه الأسئلة: هل نمتلك أحزابا علمانية بمعنى الكلمة قادرة على كسب ثقة الناخبين؟ لأن عملية ارتقاء سدة الحكم في العراق الآن تعتمد على الناخب بالدرجة الأولى والأخيرة، وبالتالي فإن هذا يحتاج لترسيخ قناعات ثابتة لدى الناخب العراقي بأن الأحزاب العلمانية بإمكانها قيادة البلد بالشكل الذي يطمح إليه المواطن، وهذه الأحزاب حتى هذه اللحظة هي أحزاب خسرت الانتخابات بحكم قانون الانتخابات.

الواقع يقول إن أحزابنا العلمانية لا تمتلك هذه الأرضية ولا هذه الشعبية على الأقل في الوقت الراهن لأسباب كثيرة، في مقدمتها الأنظمة والقوانين الانتخابية التي سلبت حق الأحزاب الصغيرة، وأغلبها ليبرالية - علمانية (إن صح التعبير)، من أن تحظى بتمثيلها البرلماني، خاصة أن مؤيدي هذه الأحزاب لا يتمركزون في دائرة انتخابية واحدة، بل هم منتشرون في عموم العراق، وبالتالي فإن أصواتهم تهدر لعدم وصولها للعتبة الانتخابية، وذلك من مساوئ النظام الانتخابي في العراق.

الشيء الآخر والمهم جدا هو أن هذه الأحزاب لا تمتلك الدعم المادي ووسائل الإعلام التي تمكنها من الترويج لأفكارها وصناعة رأي عام يساندها في حملاتها الانتخابية، بل إن بعضها يفتقد حتى المقرات أو الصحف الخاصة به، وسط اكتساح الأحزاب الدينية والقومية للفضاء الإعلامي في العراق وعموم المنطقة العربية، بحكم سيطرتها على أجهزة الدولة من جهة ومن جهة ثانية، وهي الأهم، تلقيها الدعم الخارجي، خاصة وأن العراق تحول بعد 2003 لمناطق تصارع إقليمي. النقطة الثالثة وهي الأكثر أهمية باعتقادي تكمن في عدم بروز زعامات علمانية من شأنها أن تحظى بتأييد الشارع العراقي، وحتى وإن وجدت هذه الزعامات، فإنها انصهرت في النخب السياسية العراقية الموجودة حاليا وأصبحت جزءا من كتل وائتلافات غير متجانسة، وأضاعت هويتها الآيديولوجية بشكل أو بآخر.

وفي ظل هذه الأوضاع السائدة والمتأزمة في العراق بعد الانسحاب الأميركي، يبرز سؤال آخر أكثر أهمية، هو: هل نحتاج العلمانية؟ يبدو السؤال أشبه ما يكون بالبحث عن خيارات الإنقاذ، بعد أن وجد المواطن العراقي نفسه محاصرا بالأزمات، وحتى حل هذه الأزمات يولد هو الآخر أزمات قابلة لأن تتفجر في أي لحظة بحكم المعالجات الخاطئة لأي أزمة.

وإذا ما قرأنا مظاهرات 25 (فبراير) شباط 2011، فسنجد أن أساس هذه المظاهرات قائم على إصلاح النظام السياسي في البلد وتشذيبه من الكثير من الأخطاء التي تضخمت حتى شكلت الآن وفي نهاية عام 2011 واحدة من أكبر الأزمات السياسية العراقية.

ومن يقرأ بإمعان المجتمع العراقي بصورة عامة، على الرغم من كونه مجتمعا متدينا، فإنه يميل إلى عملية فصل الدين عن الدولة، هذا الفصل الذي من شأنه أن يحفظ للدولة هيبتها ونظامها وسلطتها القانونية، وبالمقابل يمنح الدين قدسيته وروحيته ومهمته الأساسية في بناء المجتمع وفق المبادئ والقيم السليمة، وبالتالي فإن المجتمع العراقي يريد دولة علمانية، حتى وإن شكلت حكومتها أحزاب دينية في مرحلة من مراحلها.

إذن حين نطرح العلمانية في هذا الوقت إنما نحن نبحث عن حلول لبعض مشكلاتنا السياسية وحتى الاقتصادية، وعلينا أن نلغي من ذاكرتنا أن ثمة تعارضا أو تقاطعا بين العلمانية والإسلام، ولنا في التجربة التركية خير دليل على ذلك، تركيا العلمانية وتركيا المسلمة لا تعارض في هذا، فالشعب التركي مسلم، وأحزابه الدينية وصلت إلى سدة الحكم وحافظت على علمانية تركيا بطريقة أبهرت أوروبا ذاتها وأميركا.

وتركيا، كما يعرف الجميع، مرت بمراحل كثيرة بعد نهاية الدولة العثمانية؛ مرت بالدولة الأتاتوركية، وحكم العسكر والانقلابات المتعددة، حتى وصلت لما وصلت إليه الآن من نموذج ربما يكون الأحدث في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. والعراق بلد متعدد القوميات ومتعدد الديانات وبلد عريق سياسيا بحكم وجود أحزاب منذ مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، منها أحزاب قومية وأخرى ليبرالية وعلمانية ودينية، وبالتالي فإن الخلفية الفكرية والسياسية العراقية لا تحبذ أقصى اليمين أو أقصى اليسار بقدر ما تبحث عن حلول أخرى أكثر نجاعة من المتوفرة الآن في الساحة السياسية العراقية. فالجميع الآن يلقي باللوم في تعطيل الحياة السياسية للبلد على الكتل والأحزاب، والسبب لا يدركه البعض أو يستطيع تشخيصه بدقة فالسبب يكمن في الأضداد المكونة لهذه الكتل والتيارات السياسية التي يبدو بعضها غير متجانس فكريا وفي داخله تقاطعات كبيرة. ولا توجد قواسم مشتركة تجمعها؛ فإما أقصى اليمين أو أقصى اليسار.