روسيا وسوريا في أيام سقوط المثاليات

TT

«.. وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، لكن قريش قوم يعتدون».

(مسيلمة الكذاب)

ماذا تريد روسيا، اليوم، من طريقة تعاملها مع الأزمة السورية؟

.. واستطرادا ما هو موقفها من أزمات منطقة الشرق الأوسط ككل، بعد مرور سنة على تفجر الثورة التونسية التي كانت المؤشر الكبير على ما بات يوصف بـ«الربيع العربي»؟

«الفيتو» الروسي - الصيني المزدوج في مجلس الأمن الدولي الذي جاء خلال الأسابيع الأولى من تفجر الانتفاضة السورية، وجد له البعض ما يبرره في حينه. فاتجاه الأحداث في ليبيا كان صدمة لموسكو التي شعرت وكأنها تعرضت لـ«ضرب احتيال» من القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة طبعا، انتهى بتجريدها من «بيدق شطرنج» مهم لها من الناحيتين الاقتصادية واللوجيستية في العالم العربي وحوض المتوسط.

كان شعور موسكو بالمرارة والضيق إزاء استخفاف الغرب بـ«مصالحها» في منطقة لا يفترض أنها على تماس مباشر بإسرائيل أو منطقة الخليج، أكثر من مفهوم. غير أن الاتجاه الذي أخذته الانتفاضة السورية، وأسلوب القمع الدموي الذي مارسه ضدها نظام الرئيس بشار الأسد «على الطريقة القذافية».. كانا كفيلين بتوضيح معالم الصورة أكثر. ومن ثم، مع انكشاف حقيقة «فتور» الموقف الإسرائيلي، وبالتالي الأميركي، من مبدأ التغيير الذي تطالب به غالبية الشعب السوري، واكتفاء واشنطن بتحذيرات أقرب ما تكون إلى التمنيات، اتضحت صورة أخرى للعبة الإقليمية - الدولية التي هي أكبر من مجرد تغيير نظام تسلطي متصخر مستعص على الإصلاح.

«السيناريو» السوري المتعثر، وحالة العجز العربي المألوفة، ومن ثم التواطؤ الإقليمي والدولي، كلها عوامل زاد من تأثيرها السلبي على الشعب السوري وانتفاضته.. الاتجاه الذي أخذه «الربيع العربي» بشقه التغييري، سواء على صعيد الارتباك الحاصل في ليبيا، ومآل الحالة اليمنية المائعة، ونتيجتي الانتخابات في كل من تونس ومصر، بل مصر بالذات.

ما حملته الانتخابات المصرية في البلد الذي تعاملت معه واشنطن بحزم، وعجلت في إحداث التغيير على قمة السلطة فيه خلال أسبوعين فقط، كان عاملا مهما - وإن لم يكن مفاجئا - أسهم بصورة مباشرة في توالي الأحداث في المنطقة، والمواقف الدولية منها. وبروز «الإسلام السياسي» بديلا حتميا لأنظمة التسلط المتخلف التي طالما زعمت - زورا - بأنها «تقدمية» تستند إلى دعم «الجماهير» وتؤمن بـ«الاشتراكية»، مسألة قرر العقل البراغماتيكي الغربي التعامل معها بالطريقة العملية الوحيدة التي يعتمدها في ممارسته السياسة، سواء داخل دوله أو في علاقاته الدولية الخارجية.

هذا الطريقة اسمها «حساب التكلفة».. لا أكثر ولا أقل.

خلال الأشهر الماضي، بينما كانت الشعارات المثالية تنطلق من هنا وهناك لتحية انتفاضات «الربيع العربي» وتشجيعها علانية، كانت أروقة طبخ السياسات في العواصم الكبرى منهمكة في درس «تكلفة» تلك الظاهرة.. بعيدا جدا عن العواطف والمثاليات.

فقط في دول أميركا اللاتينية، ربما، كان هناك صدق «مبدئي» في مسألة استنكار سقوط معمر القذافي والوقوف في وجه انتفاضة السوريين ضد نظام الأسد. ففي أوساط اليسار بدول أميركا اللاتينية (أميركا الجنوبية وكوبا ونيكاراغوا) هناك عداء دفين للسياسة الأميركية، وشك عميق في مقاصدها، بفعل عقود متطاولة في استغلال واشنطن ثرواتها الوطنية، وتواطؤها المتكرر مع ديكتاتوراتها ضد شعوبها. وبالتالي، بالنسبة لليسار الأميركي اللاتيني الذي يحكم راهنا أكثر من ثلثي دول أميركا الجنوبية، بما فيها البرازيل والأرجنتين، فإن أي جهة تعاديها واشنطن على المسرح الدولي - ولو لفظيا - لا بد أن تكون من «المعسكر المظلوم» المستهدف، وبالتالي، وجب أخلاقيا التعاطف معها وشد أزرها.

في المقابل، ينبع الموقفان الروسي والصيني من مكان آخر مختلف تماما. فهنا لا مكان لـ«مثاليات» الأميركيين اللاتينيين الأنقياء الذين تأخروا كثيرا في اكتشاف حقيقة «الثوريين» الذين دعموهم من منطلق النية الطيبة حيال «رفاق» المظلومية.. المقاومين لـ«الاستكبار» الأميركي، وفق القاموس الإيراني!

بعد أفول نجم الشيوعية عن موسكو، وانتهاج ورثة دينغ هسياو بينغ «خطا» صينيا مبتكرا من الشيوعية بالكاد يبقي على شيء منها، يجوز القول إننا الآن أمام حالة شبيهة بحالة الاستعمار الكلاسيكي القديم عندما تقاسمت القوى العالمية الكبرى، وبالأخص الأوروبية منها، أراضي قارات العالم. فموسكو فلاديمير بوتين، رجل «الكيه جي بي» السابق، لا تحاور العالم باسم فضائل الاشتراكية ومزاياها ومصلحة الشعوب في ترويجها وتعميمها، بل تحاول إقناع الغرب في عصر ما بعد «الحرب الباردة» بترك حيز لها في خريطة تقاسم النفوذ المصالح.

لنتذكر أن الحزب الشيوعي الروسي اليوم هو حزب المعارضة الرئيسي في موسكو، وليس حزب السلطة.

ولنتذكر أن أكبر عدد من «طفيليي» الانفتاح على «اقتصاد السوق» وغاسلي أمواله، موجود اليوم في روسيا.

ولنتذكر أن الشركات الصناعية الغربية - رمز الاستغلال الرأسمالي وملكية وسائل الإنتاج كما تعلمنا - تسقط راهنا، حسب جدواها الاقتصادية، فرائس سهلة.. للرأسمالية الصينية الجديدة.

وبناء عليه، عندما ترسل روسيا قطع أسطولها إلى ميناء طرطوس فهي لا تفعل ذلك من أجل الدفاع عن كادحي الشعب السوري المظلوم، بل تفعل ذلك كإشارة إلى واشنطن مؤداها أن على الولايات المتحدة أن تحسب حسابها في الأسلاب والمغانم، وبالتالي، تترك لها بعض مناطق النفوذ.

أصلا، كيف يمكن تفسير الموقف الروسي من إيران، التي يحكمها نظام ثيوقراطي، نكل باليسار على امتداد سنين؟

ما هو المبرر للتعاون التسليحي والنووي مع طهران خارج إطار الرد على جشع واشنطن واستخفافها بالآخرين، وتوسيعها أبدا خطوط نفوذها عبر «حلف شمال الأطلسي»، (ناتو) ليشمل عددا من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق؟.. وهذا، ناهيك عن مصالحها في آسيا الوسطى، المنطقة الضخمة ذات الأهمية الاستراتيجية النفطية والجغرافية الكبرى بين أراضي روسيا والصين وإيران وشمال شبه القارة الهندية؟

ولننس إيران قليلا، وننظر إلى علاقات موسكو مع إسرائيل. هل انقطعت الصلات بين موسكو وتل أبيب على الرغم من التوتر الذي شاب العلاقات بعد اعتقال بعض أثرياء الانفتاح اليهود الروس بتهم «الإثراء غير المشروع»؟

ما يحدث اليوم هو انخراط عدة أطراف، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، في مساومة بشعة على أشلاء الأبرياء، على تكلفة التغيير وتقاسم مناطق النفوذ، بعيدا تماما عن احترام حقوق الإنسان والديمقراطية الحقيقية.

وما يظهر بوضوح الآن أن عملية «استدراج العروض» تسير على قدم وساق على مستوى منطقة الشرق الأوسط، فبعدما استطاع «اللوبي» الإسرائيلي في واشنطن إقناع إدارة جورج بوش الابن بجعل «الشيعية السياسية» الإيرانية شريكا تكتيكيا في معركته ضد «السنية السياسية» تحت ذريعة محاربة القاعدة وطالبان، مما أدى بالنتيجة إلى تسليم العراق تسليم اليد إلى طهران، ها هي واشنطن في عهد باراك أوباما تفتح صفحة جديدة.

إنها بعد ارتياحها لتجربة «السنية السياسية» الحاكمة في تركيا، تفتح اليوم - بإيحاءات إسرائيلية أيضا - مفاوضات تفاهم وتعاون مع القوى الإسلامية السنية الفائزة بالانتخابات المصرية، بهدف التعايش معها في وجه تزايد طموح طهران، والأثمان الباهظة التي تطلبها طهران وترى أنها تستحقها في خريطة النفوذ بالمنطقة.

في ظل عملية «استدراج العروض» هذه، تسقط كل المبادئ والمثاليات.. والأقنعة «الممانعة»... وتربح إسرائيل.