قصة قصتين

TT

زارتني قبل سنوات تلميذة من بلد إسلامي محافظ. قالت إنها معجبة بما أكتب وجمعت كل مقالاتي في دفتر. مددت يدي لأصافحها فردت يدها عني. جاءت لتدرس الفيزياء في برستل فتمنيت لها التوفيق. مرت سنوات وتسلمت منها مكالمة. دعتني للعشاء في مطعم محترم بلندن. التقيتها فوجدتها وقد صبغت شفتيها بالحمرة واستبدلت بالحجاب قبعة بيريه. مدت يدها لمصافحتي وأعطتني خدها لأطبع عليه قبلة بريئة. سلوك جديد واضح. قالت أريد مساعدتك. أنهيت دراستي بنجاح لكنني لا أريد العودة لوطني. المشكلة كيف أواصل إقامتي هنا. الحل الوحيد أن أتزوج ببريطاني. قلت لها هازلا: لا يسمحون بتعدد الزوجات هنا لأتزوجك وأحصل لك الإقامة. ضحكت وقالت: ابحث لي عن زوج مناسب!

كانت تفضل العيش مع أي من كان في الغرب على العيش في بلدها مع أغنى من كان. هذه محنة كبيرة تواجه بعض الدول. تنفق ما تستطيع على تعليم أبنائها فلا يعود الكثيرون منهم. ومن يعُد يجد العيش غصة تفقده الهمة والإبداع.. سنتان أو ثلاث ثم يعود من حيث أتى. وهو ما فعلته أنا وأكثر زملائي. مشكلة عويصة حقا وتعاظمت اليوم بتصاعد الإرهاب وفوز الإسلاميين وتقلص الحريات والضغط على المرأة.

هل يكمن الحل في تحرير الحياة في مجتمعنا وتزويده بوسائل ومعالم الحضارة المعاصرة ومناحي الحياة الغربية فلا يشعر الدارسون المؤهلون بالرغبة لترك أهلهم وبلدهم، أم نتمسك بتقاليدنا وتراثنا وتعاليمنا وفتاوانا ثم نأتي بالأجانب ليتولوا أمورنا والقيام بما نحتاجه من متطلبات العيش؟

لا أدري كيف حلت تلك الفتاة مشكلتها في الأخير. لكن فتاة عربية مسلمة أخرى من بدو النقب في إسرائيل طرقت بابي يوما. أوصاني والدها، رئيس جمعية الدفاع عن حقوق البدو في النقب، بالعناية بها ورعايتها أثناء دراستها. أسكنتها في بيتي لبضعة أيام حتى وجدت لها مسكنا مناسبا. في اليوم الثاني، نزلت لغرفة الجلوس وبيديها «جزمة» التزحلق على الجليد. قالت: «عمو خالد، تعرف وين فيه نادي تزحلق على الجليد skating ring في لندن؟».. سؤال عجيب من امرأة بدوية مسلمة! أرشدتها لمثل هذا الملعب في شارع كوينزوي. اصطحبتها إلى هناك. جلست في زاوية المقهى أشرب الشاي وتركتها تدخل مقصورة الملابس لتغير ثيابها وتلبس بزة التزحلق. خرجت بعد دقائق، وإذا بها عارية إلا من صدرية مختزلة وسروال شورت أشبه بالمايوه وعلى قدميها حذاء التزحلق. انطلقت بقامتها الرشيقة وساقيها المفتولتين وقد شدت خصلات شعرها الفاحم بشريط أحمر، تتزحلق على الجليد كما لو كانت بطلة من بطلات الأولمبياد العالمية. أذهلتني بمقدرتها وفنها وحركاتها. يا سبحان الله! قلت لنفسي. فتاة بدوية من فتيات النقب!

«اسم الله عليك، وين تعلمت كل هذا الفن والرياضة وكل ها التزحلق هذا على الجليد؟».

«في نادي تزحلق قريب من بيتنا في إسرائيل.. المعلمة كانت تأخذنا هناك وتعلمنا».

أنهت دراستها ونالت شهادة اللغة الإنجليزية. كلمتني بالتليفون تودعني وتمنيت لها الخير. لم تسألني أن أجد لها زوجا يعطيها الجنسية البريطانية، ولا عن أي سبيل للبقـــــاء هنــــــا في الغرب.