كارثة «فسوح»

TT

كنت أعتقد أنني إنسان «حديث»، أنتمي إلى المشاعر العاطفية، مثل جميع الذين جابوا في الأرض، وسافروا في المدن، وسكنوا في أوطان الآخرين. الذي يكثر من السفر يزداد حنينه إلى الاستقرار «في أول موطن»، لكن يخامره أيضا شعور بالحرص على جميع الأوطان، فعندما دخلت أبيدجان في حرب النهاية القذافية مع الرئيس السابق غباغبو، اكتشفنا أن في البلد الأفريقي 80 ألف لبناني، ولا ندري كم من العرب الآخرين، وليس هناك بقعة خالية من اللبنانيين في أي حال، بما فيها بلاد الإسكيمو.

ما هو حجم الإنسان «العالمي» فينا؟ الجواب السريع والمختصر، لا شيء. نحن، في اللحظات الصعبة، كائنات صغيرة، مثل الهرة الأم: نخاف أولا على حيزنا ونطاقنا الصغير، وبعدها نتطلع في الجوار، فإذا حدثت كارثة في مكان أول ما يفعله أوباما هو «الاطمئنان على أوضاع الأميركيين». وأول ما يفعله ساركوزي هو الاتصال بالسفير الفرنسي. الباقون لهم من يسأل عنهم.

كنت أعتقد أنني أنبل قليلا. هزتني مشاهد التسونامي في اليابان وإندونيسيا، ولا أطيق مشاهد الفقر في الهند حتى في الأفلام. وأغض طرفي (بالإذن من عنترة بن شداد) عن مشاهد المجاعة في الصومال. ولكن يبدو أن هذا لا يجعل منا مخلوقات متفوقة. نحن بشر ضعفاء، نعود في لحظة سريعة إلى حكمة أبي تمام:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدا لأول منزل

كم منزلا ألف أبو تمام مقارنة بالإنسان المعاصر؟ لاحظ عدد المسافرين في أي مطار. اقرأ أسماء الرحلات في مطار دبي: رحلتان إلى مالي، 3 إلى أستراليا، 10 إلى بريطانيا، ومرحبا بكم إلى البرازيل. هذا يجعل العالم الفسيح صغيرا وضيقا. لكنه لا يغير في صغر مشاعرك.

منتصف يناير (كانون الثاني) تسمرت أتابع سقوط مبنى قديم في شرق بيروت. فجأة صارت أحداث سوريا للمرة الأولى، في أشهر، في المرتبة الثانية على «الريموت كونترول». وبعد يومين أو ثلاثة اكتشفت أنني لم أسمع نبأ جنوح باخرة تحمل 4 آلاف شخص على الساحل الإيطالي، كانت السفينة «كونكورديا» مشروع «تايتانيك» أخرى، بسبب غباء قبطانها، ومع ذلك كان كل اهتمامي في انهيار مبنى سقط فيه بضعة قتلى وجرحى وسمته «النهار»: «كارثة».

أليست كل الأشياء نسبية؟ التسونامي الياباني الملحق بتسرب نووي «كارثة»، وبناية «فسوح» العتيقة كارثة؟ وباخرة في حجم بلدة تنقلب على جنبها مثل بقرة حرون، ماذا تسمى؟ يترك ذلك للصحافة الإيطالية. وقبطان الكونكورديا ليس أول بحار إيطالي غبي. قبله أبحر مواطنه كولومبس يطلب الهند، فرمى مرساته في أميركا.